قال الجاحظ: وكانت العرب تقول: لا تورثوا الابن من المال، إلا ما يكون عونا له على طلب المال، واغذوه بحلاوة العلم، واطبعوه على تعظيم الحكمة، ليصير جمع العلم أغلب عليه من جمع المال، وليرى أنه العدة والعتاد، وأنه أكرم مستفاد. وكانوا يقولون: لا تورثوا الابن من المال إلا ما يسد الخلة، ويكون له عونا على درْك الفضول، إن كان لا بد من الفضول؛ فإنه إن كان فاسدا زادت تلك الفضول في فساده، وإن كان صالحا كان فيما أورثتموه من العلم وبقيتم له من الكفاية ما يكسبه الحال، فإن الحال أفضل من المال، ولأن المال لم يزل تابعا للحال. وقد لا يتبع الحال المال. وكانوا يقولون: خير ميراث ما أكسبك وأحاط بأصول المنفعة، وعجل لك حلاوة المحبة، وبقى لك الأحدوثة الحسنة، وأعطاك عاجل الخير وآجله، وظاهره وباطنه. وليس يجمع ذلك إلا كرام الكتب النفيسة، المشتملة على ينابيع العلم، والجامعة لكنوز الأدب، ومعرفة الصناعات، وحجج الدين الذي بصحته وعند وضوح برهانه تسكن النفوس، وتثلج الصدور. ويعود القلب معمورا، والعز راسخا. وهذه الكتب هي التي تزيد في العقل وتشحذه، وتداويه وتصلحه، وتهذبه. وتنفي الخبث عنه. وتفيدك العلم. وتصادق بينك وبين الحجة، وتعودك الأخذ بالثقة. وتجلب الحال. وتكسب المال. ووراثة الكتب الشريفة، والأبواب الرفيعة، منبهة للمُوَرِّث، وكنز عند الوارث، إلا أنه كنز لا تجب فيه الزكاة، ولا حق السلطان. وإذا كانت الكنوز جامدة، ينقصها ما أُخذ منها، كان ذلك الكنز مائعا يزيده ما أخذ منه، ولا يزال بها المورِّث مذكورا في الحكماء ومنوَّها باسمه في الأسماء، وإماما متبوعا وعَلما منصوبا، ولا يزال الوارث محفوظا، ومن أجله محبوبا ممنوعا، ولا تزال تلك المحبة نامية، ما كانت تلك الفوائد قائمة، ولن تزال فوائدها موجودة ما كانت الدار دار حاجة، ولن يزال من تعظيمها في القلوب أثر، ما كان من فوائدها على الناس أثر. وقالوا: من ورثته كتابا، وأودعته علما، فقد ورثته ما يُغل ولا يُستغل، وقد ورثته الضيعة التي لا تحتاج إلى إثارة، ولا إلى سقي، ولا إلى شُرط، ولا تحتاج إلى أكار ، وليس عليها عُشر، ولا للسلطان عليها خَراج. وقالوا: متى كان الأديب جامعا بارعا. وكانت مواريثه كتب بارعة، وآداب جامعة، كان الولد أجدر أن يرى التعلم حظا، وأجدر أن يسرع التعليم إليه، ويرى تركه خطأ. وأجدر أن يجري من الأدب على طريق قد أُنهج له، ومنهاج قد وُطئ له. فخير ميراث وُرث كتب وعلم، وخير الموَرثين من أورث ما يجمع ولا يفرق،. ويبصِر ولا يعمي. ويعطي ولا يأخذ. ويجود بالكل دون البعض. ويدع لك الكنز الذي ليس للسلطان فيه حق. والركاز الذي ليس للفقراء فيه نصيب، والنعمة التي ليس للحاسد فيها حيلة. ولا للصوص فيها رغبة، وليس للخصم عليك فيه حجة، ولا على الجار فيه مؤونة.
تعليقات
إرسال تعليق