في اللحظات الأخيرة
مع فيح الحمّى وحدّة مسّها لبدنه فقد ظلّ يقظ الذّهن، حريصا على أمته وكان يخشى أن ترتكس أمته فتتعلّق بالأشخاص (الأضرحة) كما ارتكس أهل الكتاب الأولون. وشدد على إخلاص التوحيد لله وهو يعالج سكرات الموت، فعن عائشة وابن عباس قالا: لمّا نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتمّ كشفها عن وجهه فقال- وهو كذلك-: "لعنة الله على اليهود والنّصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" - يحذّر مثل ما صنعوا. وكان يخشى أن تغلب شهوات الغيّ والكبر على أمته. فإن الذين يتبعون شهوات الغيّ ينسون الصلاة، والذين يتبعون شهوات الكبر يطغون على ما تحت أيديهم من خدم وضعاف ورقيق. هذه الخشية حملت النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة أن ينبّه المسلمين إلى معاقد الخير ليتمسّكوا بها. عن أنس بن مالك قال: كانت عامّة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم- حين حضره الموت-: "الصلاة وما ملكت أيمانكم" ، حتى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يغرغر بها صدره، وما يكاد يفيض بها لسانه". لحظة وفاته صلى الله عليه وسلم قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي تحدثنا عن اللحظات الأخيرة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم: "رجع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم حين دخل من المسجد، فاضطجع في حجري، فدخل عليّ رجل من آل أبي بكر وفي يده سواك أخضر، فنظر رسول الله إليه في يده نظرة عرفت أنه يريده فقلت: يا رسول الله أتحب أن أعطيك هذا السواك؟ قال: نعم. فأخذته فمضغته حتى لينته ثم أعطيته إياه، فاستنّ به كأشد ما رأيته يستن بسواك قط ثم وضعه. قالت: "فَجَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ الدُّنْيَا وَأَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ الْآخِرَةِ". قالت: ووجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثقل في حجري، فذهبت أنظر في وجهه فإذا بصره قد شخص وهو يقول: "بل الرفيق الأعلى من الجنة" ، فقلت: خيّرت فاخترت والذي بعثك بالحق! وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "قاتل الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" ويردّد "الصلاة وما ملكت أيمانكم" حتى جعل يغرغر بها صدره وما يكاد يفيض بها لسانه. وقالت "قَبَضَهُ اللَّهُ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي" أي وهو مستند إلى صدرها. ولم يقبض صلى الله عليه وسلم حتى خير مرة أخرى بين الدنيا والآخرة قالت عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه لم يقبض نبي حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير" فلما نزل به ورأسه على فخذي غشي عليه ساعة ثم أفاق فأشخص بصره إلى سقف البيت ثم قال: "اللهم الرفيق الأعلى" فقلت: الآن لا يختارنا وعلمت أنه الحديث الذي كان يحدثناه وهو صحيح فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها. وفي رواية أنه قال: "اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى" وفي رواية "أنه أصابه بحة شديدة فسمعته يقول: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء: ٦٩] قالت: فظننت أنه خيّر.
تعليقات
إرسال تعليق