الولاية الخرافية

 


في أحد الكفور الريفية كان (زعبل) واحد من الفلاحين الذين نشب الفقر فيهم أظفاره وكان يعمل لدى شيخ الكفر في السخرة والأعمال الشاقة حتى انحل جسمه وذهبت قوته .
فاخذ يفكر في حيلة يتخلص بها من مخالب سلطة شيخ الكفر عليه فلم يجد سبيلا احسن من الفرار. ولما كان النهار  على وشك الانقضاء انتظر حتى غربت الشمس واقبل الليل فسار وهو خائف يترقب الى ان قطع اميالا مبتعدا عن الكفر.
 فتأمل خلفه فاذا حمامة تنقر في الارض تبحث على قوتها فاراد صيدها فاخذ حجرا صغيرا ورماها به فاصاب جناحها فعجزت عن الطيران فامسكها مسرورا ووضعها في جيبه حتى يذبحها ويشويها ليدفع الجوع عن نفسه.
وجّد في السير حتى وصل لأحد الكفور فرأى قوما من اهل الطريق الصوفية مجتمعين فانضم إليهم فلما ساروا ذهب معهم حتى دخلوا دارا كانت معدة لهم ليذكروا الله فيها.
 فلما استقر بهم المقام جيىء بالطعام كما هو العادة في الأرياف. ولما كان من لوازم تلك العادة كما لا يخفى ان رب المنزل يجعل الطعام مقسما على المدعوين وكان عددهم بدون زعبل عشرين رجلا جيىء بعشرين حمامه على عددهم فقام وأعطى كل واحد حمامه حتى وصل زعبل فلم يتأمله فأعطاه حمامة أيضا وما زال يدور بينهم يقسم الحمام عليهم فبقي واحد من المدعوين بدون ان يأخذ شيئا فتفاجؤوا وكثر اللغط بينهم فقام بعّدهم فوجدهم واحد وعشرين رجلا فتأملهم فرأى زعبل فصاح هذا غريب.
 فقام الذي لم يأخذ حمامته وتعلق بزعبل قائلا (هات خدمتي يا حرامي) .
وكان زعبل قد اغتنم الفرصة وقت اللغط وأكل الحمامة.
فعندما تعلق به الرجل مد يده الى جيبه واخرج له الحمامة التي كان قد صادها، وقال خذ حمامتك.
 فلما رأى القوم هذه الحالة بهتوا ولجلجت ألسنتهم وارتعدت فرائصهم وقاموا يطلبون منه الدعاء ويقولون (شيء الله المدد) وظنوا بل اعتقدوا انه ولي .
فلما رأى زعبل ان القوم اعتقدوه أخذ يصيح ويهمهم.
فكان السعيد منهم فيما يظنون من تمكن من لمس ثوبه ليتبرك به!.
 فاشتهر صيت الشيخ زعبل في الكفر فلم يكن الا كملح البصر حتى حضر الناس افواجا إليه حتى ضاقت بهم الدار فخشي صاحبها أن يتغير مزاج الشيخ (زعبل) فقام ودفع الناس عنه ووقف امامه واضعا يديه على صدره ثم قال وهو في غاية من الخضوع (تفضل بنا الى المحل المخصوص لحضرتك لتحصل البركة) فقام وصاحب البيت خلفه يمشي على اطراف اصابعه حتى اوصله الى  المحل فاجلسه ووقف الى ان اذن له بالجلوس فجلس ثم ارسل الى الفقراء يامرهم بالذكر على مدد الشيخ وتخصيص الليلة به .
وهو في ذلك يهدر حكما ويدخل في كل عبارة اشارة فاذا اراد احد الدخول عليه لا يمكنه إلا بعد ان يستأذن المريدون الشيخ فاذا أذن جاءوه به فاذا دخل وقف خافضا رأسه حتى يأذن الشيخ له بالجلوس فيجلس ولا يتكلم الا بالاذن ايضا.
وصادف الشيخ زعبل من الحوادث ما كان سببا لزيادة الاعتقاد فيه وذلك ان احد سكان الكفر من الفلاحين كان عليه من الاموال المقررة على اطيانه ما لايتمكن من دفعه ، فاضطر الى ان يبيع بقرة لا يملك سواها لدفع تلك الغرامة، فلما باعها جاء بثمنها وسلمه الى زوجته الى ان يأتي شيخ الكفر فيعطيه له فوضعته في كوة (طاقة) بالبيت، فجاء لص وسرق المال ومضي ثم بعد قليل تذكر اللص ان في الكفر شيخا له كرامات ظاهرة فهدته خاتمة افكاره الى ان يذهب اليه ويعطيه المال المسروق حتى لا يفتضح فاسرع حتى وصل واستاذن فدخل واخبر الشيخ زعبل بالسر ثم اعطاه المبلغ فاخذه منه وصار يعنفه ويقول (عرفنا الامر من قبل) ثم امره ان لا يعود لمثل ذلك ما دام هو في الكفر فشكره اللص وانصرف.
ثم ان شيخ الكفر جاء الى دار الفلاح وطلب منه المال فطلبه الفلاح من زوجته فقامت لتأتي به فلم تجده فصاحت بأعلى صوتها (خده الحرامي) واخذت في العويل والبكاء.
 فقال زوجها (يا بركة سيدي زعبل) ثم قصده، فلما وصل الى البيت الذي هو به دخل باكيا واخبره الخبر فقال له الشيخ زعبل (طمن قلبك) ثم رفع طرف البساط الذي هو جالس عليه واخرج ماله وأعطاه اياه وقال (خذ أديني جبته لك خل الطريق مستورة) فأخذ الرجل المال وهو باهت متعجب لهذا الكرامات الباهرة ومال على أقدام الشيخ يقبلها تارة ويضعها فوق رأسه أخرى فصاح من بالمجلس (مددك يا شيخنا) وفرح صاحب البيت معتقدا انه بنزول الشيخ عنده صار من السعداء.
واما شيخ الكفر الذي منه زعبل فإنه تفقد في بعض الأيام أحوال عماله فلم يجد زعبلا فيهم فعلم انه هرب فأخبر مأمور العمال به وألزمه بإحضاره.
ثم رأى أخيرا انه لا بد ان يستكشف الامر بنفسه خيفة ان يكون فراره بعلمه وهو متكتم على الأمر فسار معه لذلك وكان اول ناحية دخلاها هي الكفر الذي به زعبل فذهبا لشيخ هذا الكفر وعرفاه الحال وبينا له صفة زعبل فقال لهما ان هذا الاسم وهذه الصفات تنطبق على الشيخ زعبل ولكن حاشا ان يكون هو الذي تقصدان فانه شيخنا، فقالا نريد ان نراه ولو بقصد التبرك، فاجابهم ومشى معهما حتى أوصلهما الى البيت الذي هو به فاستأذنوا ودخلوا ، فكان شيخ كفر زعبل والمأمور يلحظان زعبلا و علما أنه مطلوبهم فكتما مرادهما حتى خرجا فقالا لشيخ الكفر هذا هو مطلوبنا، فقال حاشا ان يكون هو، وصار يعدد لهما كراماته.
 فقال له المأمور بقي عليه كرامة واحدة ان اظهرها كان لاشك ولياً ، وذلك ان يذبح صاحب البيت في الليلة المقبلة كبشا وكلبا ، ويضع الكبش في قصعة ويقدمها للمأمور ومن معه، ويضع الكلب في قصعة ويقدمه لزعبل وأتباعه ، فان كان وليا ميز بين الكبش والكلب.
 فاستحضر شيخ الكفر صاحب الدار وأمره بذلك وبكتمانه فخاف على نفسه من غضب الشيخ الا انه لم ير بداً من الإجابة ، فقام الى بيته واخبر زوجته بالمطلوب فصرخت في وجهه وقالت (انت يا شيخ عاوز تخرب بيتك) فقال لها ان شيخ الكفر ألزمني بذلك فكيف العمل ٠
فقالت له (انا أروح للشيخ زعبل وأقول له والا عدمنا أولادنا) فرضي بذلك وقال لها (أوعى تقولي لغيره) فقامت من عنده وقصدت الشيخ وأوضحت له الحقيقة فقال لها (انا عارف من قبل، اعملى زي ما هم عايزين) ففرحت المرأة برضاه وفعلت ذلك فلما جاء وقت العشاء بقي الشيخ زعبل في المحل المخصص له حتى تكامل الناس فنزل إليهم فلما رأوه قاموا إجلالا له حتى جلس ثم أشار إليهم فجلسوا فاستدعى بالطعام فوضعت المائدة فأراد الناس ان يأكلوا فصرخ فيهم قائلا (أعطوا الكلب للكلاب) وهاتوا لنا القصعة .
فهاج الناس لذلك وعلموا بالمكيدة فصاروا يسبون المأمور ومن معه ويطلبون من الشيخ السماح، فخجل المأمور وشيخ الكفر وقاما هاربين، وقالا: هذا لا شك ولي من أولياء الله .
فلما انقضت تلك الليلة وأصبح الصباح قال الشيخ زعبل لصاحب الدار اذا غبت عنكم الليلة فلا تبحثوا علي فقد جاء الأوان وصدر لنا الإذن بالرحيل فاضطرب الرجل لذلك (أحنا عملنا أية حتى تفوتنا) فقال الشيخ صدر الإذن والسلام.
وما فعل ذلك إلا خوف أن يفتضخ فلما جاء الليل خرج من المحل فرأى اثنين سارقين محراثا، فلما رأياه هربا من أمامه ونزلا قاربا في النهر وسارا به ، فقال في نفسه لا بد ان ارجع ثانية وأبين هذا الكرامة، فرجع ودخل الدار التي كان بها وصاحبها غير عالم به فلما أصبح رأى الشيخ في منزله ففرح ودخل عليه وجلس أمامه والشيخ لا يتكلم فشاع في الكفر ان احد اهل الكفر سرق له محراث فهرول صاحب المحراث حتى جاء الى الشيخ مكتئبا وشرح له قصته.
 فقال له توجه الى الجهة الفلانية عند شاطئ النهر تجد محراثك فتوجه الرجل فرآه كما قال الشيخ فكبر اعتقاد الناس فيه حتى بلغ الغاية القصوى فاخبرهم انه يغادرهم في الليلة القادمة فتجمعوا وترجوا ان يقبل منهم ما يجهزوه فجمعوا له من الذهب ما لايمكنهم الزيادة عنه وبعد ان أظهر العفة قبله وأراهم انه يصرفه على المحتاجين ثم انصرف وقد تخلص من السخرة والأعمال الشاقة بالولاية الخرافية.
 
 ذكر القصة ابن النديم في التنكيت والتبكيت نقلا عن أحد الرجال من بورسعيد.

تعليقات