من هو العالم اللص،
وعلماء السلطان، والشيوخ الذين لن يردوا الحوض على النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف
يخدع إبليس العلماء والشيوخ وما هو الوادي في النار الذي تستعيذ منه جهنم؟!
لنرى..
اشتهر عند السلف الصالح
أن علماء السلطان على خطر عظيم، وفي وبال شديد.
ولقد أحسن الشاعر
محمود الوراق بقوله:
ركبوا المراكب واغتدوا
... زمرا إلى باب الخليفه
وصلوا البكور إلى
الرواح ... ليبلغوا الرتب الشريفه
حتى إذا ظفروا بما ...
طلبوا من الحال اللطيفه
وغدا الموالي منهم ...
فرحا بما تحوي الصحيفه
وتعسفوا من تحتهم ...
بالظلم والسير العنيفه
باعوا الأمانة
بالخيانة ... واشتروا بالأمن الجيفه
لم ينتفع بالعلم إذ
... شغفته دنياه الشغوفه
نسى الإله ولاذ في الد
... نيا بأسباب ضعيفه
أخرج أبو داود،
والترمذي وحسنه، والنسائي، والبيهقي في (شعب الإيمان)، عن ابن عباس، رضي الله
عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سكن البادية جفا ، ومن اتبع
الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلاطين افتتن".
وأخرج أبو داود،
والبيهقي، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من
بدا فقد جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلاطين افتتن، وما ازداد عبد من
السلطان دنوا إلا ازداد من الله بعدا".
وأخرج الترمذي وصححه، والنسائي، والحاكم وصححه،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيكون بعدي أمراء، فمن دخل عليهم فصدقهم
بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني، ولست منه، وليس بوارد علي الحوض، ومن لم
يدخل عليهم، ولم يعنهم على ظلمهم، ولم يصدقهم بكذبهم، فهو مني، وأنا منه، وهو وارد
علي الحوض".
وأخرج أحمد، والبزار،
وابن حبان، في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: "سيكون أمراء، من دخل عليهم وأعإنهم على ظلمهم، وصدقهم بكذبهم،
فليس مني ولست منه، ولن يرد علي الحوض. ومن لم يدخل عليهم، ولم يعنهم على ظلمهم،
ولم يصدقهم بكذبهم فهو مني وأنا منه وسيرد علي الحوض".
وأخرج
البخاري في تاريخه وابن سعد في (
الطبقات)
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "يدخل الرجل على السلطان ومعه دينه، فيخرج
وما معه شيء".
وأخرج
ابن سعد في (الطبقات) عن سلمة بن نبيط قال: قلت لأبي - وكان قد شهد النبي صلى الله
عليه وسلم ورآه وسمع منه - يا أبت لو أتيت هذا السلطان فأصبت منهم وأصاب قومك في
جناحك؟ قال: أي بني إني أخاف أن أجلس منهم مجلسا يدخلني النار".
وأخرج
الدارمي، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "من طلب العلم لأربع دخل النار:
ليباهي به العلماء، ويماري به السفهاء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه، أو يأخذ به
من الأمراء".
وأخرج
ابن ماجه، والبيهقي، عن ابن مسعود، قال: "لو أن أهل العلم صانوا العلم،
ووضعوه عند أهله، لسادوا به أهل زمانهم ولكنهم بذلوه لأهل الدنيا لينالوا به من
دنياهم، فهانوا عليهم. سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: "من جعل الهم هما
واحداّ همّ آخرته، كفاه الله ما همّه من أمر دنياه ومن تشعبت به الهموم في أحوال
الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك".
وأخرج
البيهقي عن أيوب السختياني قال: قال أبو قلابة: "أحفظ عنى ثلاث خصال: إياك
وأبواب السلطان، وإياك ومجالسة أصحاب الأهواء، والزم سوقك فإن الغنى من العافية،
لا تجالس صاحب بدعة".
وأخرج
البيهقي عن يونس بن عبيد قال: "لا تجالس صاحب بدعة، ولا صاحب سلطان، ولا
تخلون بامرأة".
وأخرج
البيهقي عن الفضل بن عباس رضي الله تعالى عنه قال: "كنا نتعلم اجتناب السلطان
كما نتعلم سورة من القرآن".
وأخرج
البيهقي عن يوسف بن أسباط قال: قال لي سفيان الثوري: "إذا رأيت القاريء يلوذ
بالسلطان فاعلم أنه لص، وإذا رأيته يلوذ بالأغنياء فاعلم أنه مرائي، وإياك أن تخدع
فيقال لك ترد مظلمة أو تدفع عن مظلوم؛ فإن هذه خدعة إبليس اتخذها للقراء
سلما".
وأخرج البيهقي عن أبي شهاب
قال: سمعت سفيان الثوري يقول لرجل: "إن دعوك لتقرأ عليهم قل هو الله أحد فلا
تأتهم" قيل لأبي شهاب من تعني؟ قال: السلطان .
وأخرج
عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: أدركت بضعة عشرة رجلا من التابعين يقولون:
"لا تأتوهم، ولا تأمروهم يعني السلطان".
وأخرج
البيهقي عن بكر بن محمد العابد سمعت سفيان الثوري : "إن في جهنم واد تستغيث
منه جهنم كل يوم سبعين مرة، أعده الله للقراء الزائرين السلطان".
وأخرج
الخطيب البغدادي في تاريخه قال: قال عيسى بن موسى وهو يومئذ أمير الكوفة لابن
شبرمة: مالك لا تأتينا؟ قال: أصلحك الله، إن أتيتك فقربتني فتنتني، وإن أبعدتني
آذيتني، وليس عندي ما أخاف عليه، وليس عندك ما أرجو، فما رد عليه شيئا ".
وأخرج
الرافعي في تاريخ قزوين قال: كتب أبو بكر بن عياش إلى عبد الله بن المبارك: إن كان
الفضل بن موسى الشيباني لا يداخل السلطان فاقرئه مني السلام".
وروى
أبو نعيم في الحلية أن عبد الله بن عبد الملك بن مروان قدم المدينة، فبعث حاجبه
إلى سعيد بن المسيب فقال له: أجب أمير المؤمنين! قال: وما حاجته؟ قال: لتتحدث معه.
فقال: لست من حداثه. فرجع الحاجب إليه فأخبره، قال: دعه .
وروى
الخطيب، عن حماد بن سلمة: أن بعض الخلفاء أرسل إليه رسولا يقول له: إنه قد عرضت
مسألة، فأتنا نسألك. فقال للرسول: قل له: "إنا أدركنا أقواما لا يأتون أحدا
لما بلغهم من الحديث فإن كانت لك مسألة فاكتبها في رقعة نكتب لك جوابها".
وأخرج
أبو الحسن بن فهر في كتاب (فضائل مالك)،
عن
عبد الله بن رافع وغيره قال: قدم هارون الرشيد المدينة، فوجه البرمكي إلى مالك،
وقال له: احمل إلي الكتاب الذي صنفته حتى أسمعه منك. فقال للبرمكي: أقرئه السلام
وقل له: إن العلم يزار ولا يزور، فرجع البرمكي إلى هارون الرشيد، فقال له: يا أمير
المؤمنين! يبلغ أهل العراق أنك وجهت إلى مالك في أمر فخالفك! اعزم عليه حتى يأتيك.
فأرسل إليه فقال: قل له يا أمير المؤمنين لا تكن أول من وضع العلم فيضيعك
الله".
وروى
عمار في تاريخه عن ابن منير: أن سلطان بخارى، بعث إلى محمد بن إسماعيل البخاري
يقول: احمل إلي كتاب (الجامع) و(التاريخ) لأسمع منك. فقال البخاري لرسوله:
"قل له أنا لا أذل العلم، ولا آتي أبواب السلاطين فإن كانت لك حاجة إلى شيء
منه، فلتحضرني في مسجدي أو في داري".
وروى
نعيم بن الهيصم عن الحسن أنه مر ببعض القراء على بعض أبواب السلاطين، فقال: أقرحتم
جباهكم، وفرطحتم نعالكم، وجئتم بالعلم تحملونه على رقابكم إلى أبوابهم؟! أما إنكم،
لو جلستم في بيوتكم لكان خيرا لكم، تفرقوا فرق الله بين أعضائكم".
وقال
الزجاج في أماليه: مر الحسن البصري بباب عمر بن هبيرة وعليه القراء فسلم، ثم قال:
"ما لكم جلوسا قد أحفيتم شواربكم وحلقتم رؤوسكم، وقصرتم أكمامكم، وفلطحتم
نعالكم! أما والله! لو زهدتم فيما عندهم، لرغبوا فيما عندكم، ولكنكم رغبتم فيما
عندهم، فزهدوا فيما عندكم فضحتم القراء فضحكم الله".
وأخرج
ابن النجار، عن الحسن أنه قال: "إن سركم أن تسلموا ويسلم لكم دينكم، فكفوا
أيديكم عن دماء المسلمين، وكفوا بطونكم عن أموالهم، وكفوا ألسنتكم عن أعراضهم ولا
تجالسوا أهل البدع، ولا تأتوا الملوك فيلبسوا عليكم دينكم".
وأخرج
أبو نعيم، عن ابن المبارك قال: "من بخل بالعلم ابتلى بثلاث: إما بموت فيذهب
علمه، وإما ينسى، وإما يلزم السلطان فيذهب علمه".
وروى الخطيب البغدادي عن
مالك بن أنس رحمه الله، قال: "أدركت بضعة عشر رجلا من التابعين يقولون لا
تأتوهم، ولا تأمروهم، يعني السلطان".
وقال ابن باكويه الشيرازي:
نبأنا عبيد الله بن محمد القرشي، قال: كنا مع سفيان الثوري بمكة، فجاءه كتاب من
عياله من الكوفة: بلغت بنا الحاجة أنا نقلي النوى فنأكله فبكى سفيان. فقال له بعض
أصحابه: يا أبا عبد الله! لو مررت إلى السلطان، صرت إلى ما تريد! فقال سفيان: "والله
لا أسأل الدنيا من يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها".
وعن
سفيان الثوري أنه كان يقول: "تعززوا على أبناء الدنيا بترك السلام
عليهم".
وعن
أحمد بن أبي الحواري قال: قلت لأبي سليمان تخالف العلماء؟ فغضب وقال: "أرأيت
عالما يأتي باب السلطان فيأخذ دراهمهم".
فضل
قيام أهل العلم بصيانته
روى
أبو علي الآمدي عن عمار بن سيف، أنه سمع سفيان الثوري يقول: "النظر إلى
السلطان خطيئة".
وأخرج
ابن باكويه، عن الفضيل بن عياض، قال: "لو أن أهل العلم أكرموا على أنفسهم
وشحوا على دينهم، وأعزوا العلم وصانوه، وأنزلوه حيث أنزله الله، لخضعت لهم رقاب
الجبابرة وانقاد لهم الناس، واشتغلوا بما يعنيهم، وعز الإسلام وأهله لكنهم استذلوا
أنفسهم ولم يبالوا بما نقص من دينهم؛ إذا سلمت لهم دنياهم وبذلوا علمهم لأبناء
الدنيا ليصيبوا ما في أيديهم، فذلوا وهانوا على الناس".
قال
الآمدي: قدم طاهر بن عبد الله بن طاهر من خراسان في حياة أبيه يريد الحج: فنزل في
دار إسحاق بن إبراهيم فوجه إسحاق إلى العلماء، فأحضرهم ليراهم طاهر، ويقرأ عليهم
فحضر أصحاب الحديث والفقه وأحضر ابن الأعرابي، وأبا نصر صاحب الأصمعي، ووجه إلى
أبي عبيد القاسم بن سلام في الحضور، فأبى أن يحضر وقال: العلم يقصد، فغضب إسحاق من
قوله ورسالته، وكان عبد الله بن طاهر جرى له في الشهر ألفي درهم فلم يوجه إليه
إسحاق، وقطع الرزق عنه، وكتب إلى عبد الله بالخبر فكتب إليه: قد صدق أبو عبيد في
قوله، وقد أضعفت الرزق له من أجل فعله، فأعطاه ما فاته ورد عليه بعد ذلك ما يستحقه
".
أبو
حازم الزاهد وأمراء بني أمية
أخرج
ابن عساكر، عن عبد الجبار بن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه، عن جده: أن سليمان
بن عبد الملك دخل المدينة، فأقام بها ثلاثا. فقال: ههنا رجل ممن أدرك أصحاب محمد
صلى الله عليه وسلم ويحدثنا؟ فقيل له: بلى ههنا رجل يقال له أبو حازم فبعث إليه،
فجاءه، فقال له سليمان: يا أبا حازم! ما هذا الجفاء أتاني وجوه المدينة كلهم ولم
تأتني!؟
قال
أبو حازم: إن الناس لما كانوا على الصواب، كانت الأمراء تحتاج إلى العلماء، وكانت
العلماء تفر بدينها من الأمراء، فلما رأى ذلك قوم من أذلة الناس تعلموا العلم
وأتوا به إلى الأمراء فاستغنت به عن العلماء، واجتمع القوم على المعصية فسقطوا أو
تعسوا أو تنكسوا ولو كان علماؤنا هؤلاء يصونون علمهم، لم تزل الأمراء
تهابهم".
وأخرج
ابن عساكر عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: حدثنا أبو حازم لما دخل على سليمان بن عبد
الملك قال: فسلمت وأنا متكئ على عصاي فقيل ألا تتكلم!؟
قلت:
وما أتكلم به!؟ ليست لي حاجة فأتكلم فيها، وإنما جئت لحاجتكم التي أرسلتم إلي
فيها، وما كل من يرسل إلى آتيه، ولولا الخوف من شركم ما جئتكم. إني أدركت أهل
الدنيا تبعا لأهل العلم حيث كانوا، يقضي أهل العلم لأهل الدنيا حوائج دنياهم
وأخراهم، ولا يستغني أهل الدنيا عن أهل العلم لنصيبهم من العلم.
ثم حال الزمان، فصار أهل
العلم تبعا لأهل الدنيا حيث كانوا، فدخل البلاء على الفريقين جميعا. ترك أهل
الدنيا النصيب الذي كانوا يتمسكون به من العلم حيث رأوا أهل العلم قد جاؤوهم، وضيع
أهل العلم جسيم ما قسم لهم باتباعهم أهل الدنيا".
وأخرج ابن أبي الدنيا،
والخرائطي، وابن عساكر، عن زمعة بن صالح، قال: كتب بعض بني أمية إلى أبي حازم أن
يرفع إليه حوائجه، فكتب إليه: "أما بعد فقد جاءني كتابك بعزم أن ترفع حوائجي
إليك وهيهات! رفعت حوائجي إلى مولاي . فما أعطاني منها قبلت، وما أمسك عني منها
رضيت".
حماد
بن سلمة وأمير العراق
وأخرج
الخطيب وابن عساكر، عن مقاتل بن صالح الخراساني قال: دخلت على حماد بن سلمة، فبينا
أنا عنده جالس؛ إذ دق داق الباب فقال: "يا صبية أخرجي فانظري من هذا!
فقالت:
هذا رسول محمد بن سليمان الهاشمي - وهو أمير البصرة والكوفة - .
قال:
قولي له يدخل وحده، فدخل وسلم فناوله كتابه، فقال: اقرأه فإذا فيه: "بسم الله
الرحمن الرحيم من سليمان إلى حماد بن سلمة. أما بعد: فصبحك الله بما صبح به
أولياءه وأهل طاعته. وقعت مسألة فأتينا نسألك عنها" .
فقال:
"يا صبية هلمي الدَواة!" .
ثم
قال لي: "اقلب الكتاب وكتب: أما بعد فقد صبحك الله بما صبح به أولياءه وأهل
طاعته، إنا أدركنا العلماء وهم لا يأتون أحدا؛ فإن وقعت مسألة فأتنا فاسألنا عما
بدا لك! وإن أتيتني، فلا تأتني إلا وحدك، ولا تأتني بخيلك ورجلك، فلا أنصحك ولا
أنصح نفسي، والسلام".
فبينما أنا عنده؛ إذ دق
داق الباب فقال: "يا صبية أخرجي فانظري من هذا!".
قالت: "هذا محمد بن
سليمان، قال: "قولي له يدخل وحده" .
فدخل، فسلم ثم جلس بن يديه، ثم ابتدأ، فقال: ما لي إذا نظرت إليك امتلأت رعبا!؟ فذكر له حماد حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وأخرج
ابن النجار في تاريخه قال المأمون ليحيى بن أكثم: إني أشتهي أن أرى بشر بن الحارث.
قال:
إذا اشتهيت يا أمير المؤمنين، فإلى الليلة ولا يكون معنا بشر.
فركبا، فدق يحيى الباب
فقال بشر: من هذا؟ قال: من تجب عليك طاعته.
قال: وأي شيء تريد؟ قال:
أحب لقاك فقال بشر: طائعا أو مكرها .
قال:
ففهم المأمون، فقال ليحيى: اركب .
فمر
على رجل يقيم الصلاة صلاة العشاء الآخرة فدخلا يصليان فإذا الإمام حسن القراءة
فلما أصبح المأمون وجه إليه، فجاء به فجعل يناظره في الفقه، وجعل الرجل يخالفه،
ويقول: القول في هذه المسألة خلاف هذا فغضب المأمون.
فلما كثر خلافه قال: عهدي
بك، كأنك تذهب إلى أصحابك فتقول: خطأت أمير المؤمنين. .
فقال:
والله يا أمير المؤمنين إني لأستحي من أصحابي أن يعلموا أني جئتك!.
فقال المأمون: الحمد لله
الذي جعل في رعيتي من يستحي أن يجيئني، ثم سجد لله شكرا.
والرجل إبراهيم بن إسحاق
الحربي.
وأخرج
ابن النجار في تاريخه عن سفيان الثوري قال: "ما زال العلم عزيزا، حتى حمل إلى
أبواب الملوك فأخذوا عليه أجرا، فنزع الله الحلاوة من قلوبهم ومنعهم العلم
به".
وأخرج
أيضا عن الفضيل بن عياض، قال: إن آفة القراء العجب، واحذروا أبواب الملوك فإنها
تزيل النعم فقيل: كيف؟
قال:
الرجل يكون عليه من الله نعمة ليست له إلى خلق حاجة فإذا دخل إلى هؤلاء فرأى ما
بسط لهم في الدور والخدم استصغر ما هو فيه من خير ثم تزول النعم".
أحوال
مخالطة السلاطين
عقد
الغزالي في (الإحياء) بابا في مخالطة السلاطين، وحكم غشيان مجالسهم، والدخول
عليهم، قال فيه: (اعلم أن لك مع الأمراء والعمال الظلمة، ثلاثة أحوال:
الحال
الأولى: وهي شرها، أن تدخل عليهم.
والثانية:
وهي دونها أن يدخلوا عليك.
والثالثة:
- وهي الأسلم -: أن تعتزل عنهم، ولا تراهم ولا يروك.
أما
الحالة الأولى: وهي الدخول عليهم، فهي مذمومة جدا في الشرع وفيه تغليظات وتشديدات
تواردت بها الأخبار والآثار فننقلها لتعرف ذم الشرع له. ثم نتعرض لما يحرم منه،
وما يباح وما يكره، على، ما تقتضيه الفتوى في ظاهر العلم) ثم سرد كثيرا من
الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها .
ومما أورده مما لم يسبق له ذكر:
قال
سفيان: في جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزوارون للملوك.
وقال
الأوزاعي: ما شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملا.
وقال
إسحاق: ما أسمج بالعالم يؤتى مجلسه ولا يوجد فيسأل عنه فيقال: إنه عند الأمير.
وكنت أسمع أنه يقال: إذا
رأيتم العالم يزور السلطان فاتهموه على دينكم. أنا ما دخلت قط على هذا إلا وحاسبت
نفسي بعد الخروج، فأرمي عليها الدرك مع ما أواجههم به من الغلظة والمخالفة لهواهم.
وكان
سعيد بن المسيب يتجر في الزيت ويقول: إن في هذا لغنى عن هؤلاء السلاطين.
وقال
وهب: هؤلاء الذين يدخلون على الملوك، لهم أضر على الأمة من المقامرين.
وقال
محمد ابن مسلمة: الذباب على العذرة، أحسن من قارئ على باب هؤلاء.
ولما
خالط الزهري السلطان كتب له أخ في الدين: "عافانا الله وإياك يا أبا بكر من
الفتن، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن يعرفك أن يدعو لك ويرحمك، أصبحت شيخا كبيرا وقد
أثقلتك نعم الله لما فهمك من كتابه وعلمك من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وليس
كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء. واعلم أن أيسر ما ارتكبت، وأخف ما احتملت، أنك
أنست وحشة الظالم، وسهلت سبيل الغي، بدنوك ممن لم يؤد حقا، ولم يترك باطلا حين
أدناك، اتخذك قطبا تدور عليك رحايا ظلمهم، وجسرا يعبرون عليك إلى بلائهم وسلما
يصعدون فيه إلى ضلالتهم، يدخلون بك الشك على العلماء ويغتالون بك قلوب الجهال، فما
أيسر ما عمروا لك في جنب ما أخربوا عليك، وما أكثر ما أخذوا منك فيما أفسدوا عليك
من دينك فما يؤمنك أن تكون ممن قال الله فيهم: { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلواة
واتبعوا الشهوات }، وإنك تعامل من لا يجهل، ويحفظ عليك من لا يغفل، فداو دينك فقد دخله سقم وهيء زادك فقد حضره
سفر بعيد، وما يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء والسلام".
ثم
قال: "فإن قلت: فلقد كان علماء السلف يدخلون على السلاطين فأقول: نعم تعلم
الدخول منهم، ثم أدخل عليهم!
فقد
حكي: أن هشام بن عبد الملك، قدم حاجا إلى مكة فلما دخلها قال: ائتوني برجل من
الصحابة فقيل: يا أمير المؤمنين! فقد تفانوا قال: من التابعين.
فأتي
بطاوس اليماني فلما دخل عليه، خلع نعليه بحاشية البساط، ولم يسلم بإمرة المؤمنين،
ولكن قال: السلام عليك يا هشام! ولم يكنه وجلس بإزائه وقال: كيف أنت يا هشام!.
فغضب هشام غضبا شديدا حتى
همّ بقتله وقال له: ما حملك على ما صنعت؟! قال: وما الذي صنعت؟!.
فازداد
غضبا وغيظا، فقال: خلعت نعلك بحاشية بساطي، وما قبلت يدي، ولم تسلم علي بإمرة
المؤمنين، ولم تكنني وجلست بإزاي بغير إذن، وقلت: كيف أنت يا هشام؟ .
فقال:
أما قولك: خلعت نعلي، بحاشية بساطك، فأنا أخلعها بين يدي رب العالمين كل يوم خمس
مرات ولا يعاقبني ولا يغضب علي. وأما قولك: لم تقبل يدي فإني سمعت علي بن أبي طالب
قال: لا يحل لرجل أن يقبل يد أحد، إلا امرأته بشهوة أو ولده برحمة. وأما قولك: لم
تسلم بإمرة المؤمنين، فليس كل الناس راض بإمرتك، فكرهت أن أكذب.
وأما
قولك: لم تكنني فإن الله تعالى سمى أولياءه وقال: يا داود، يا يحيى، يا عيسى وكني
أعداءه فقال: { تبت يدا أبي لهب } وأما قولك: جلست بإزائي فإني سمعت علي بن أبي
طالب يقول: "إذا أردت أن تنظر إلى رجل من أهل النار، انظر إلى رجل جالس وحوله
قوم قيام".
فقال
هشام: عظني؟.
قال:
سمعت علي بن أبي طالب يقول: "إن في جهنم حيات كالقلال، وعقارب كالبغال تلدغ
كل أمير لا يعدل في رعيته" ثم قام وخرج .
وعن
سفيان الثوري قال: دخلت على أبي جعفر بمنى، فقال لي: ارفع حاجتك؟
فقلت له: اتق الله! فإنك
قد ملأت الأرض جورا وظلما.
قال:
فطأطأ رأسه، ثم رفع وقال: ارفع لنا حاجتك؟
فقلت:
إنما أنزلت هذه المنزلة بسيوف المهاجرين والأنصار، وأبناؤهم يموتون جوعا، فاتق
الله وأوصل إليهم حقوقهم.
قال: فطأطأ رأسه ثم رفع
وقال: ارفع إلينا حاجتك؟
قلت: حج عمر بن الخطاب رضي
الله عنه فقال لخازنه: كم أنفقت؟ قال: بضعة عشر درهما، وأرى ها هنا أمورا لا تطيق
الجمال حملها".
فهكذا
كانوا يدخلون على السلاطين إذا أكرهوا فكانوا يفرون بأرواحهم في الله أعني علماء
الآخرة، فأما علماء الدنيا فيدخلون ليتقربوا إلى قلوبهم، فيدلونهم على الرخص،
ويستنبطون بدقائق الحيل السعة فيما يوافق أغراضهم" انتهى كلام الغزالي ملخصا.
وفي
(
طبقات
الحنفية) في ترجمة علي بن الحسن الصندلي: أن السلطان ملك شاة قال له: لم لا يجيء
إلي؟ قال: أردت أن تكون من خير الملوك، حيث تزور العلماء، ولا أكون من شر العلماء
حيث أزور الملوك.
وقال
ابن عدي في (الكامل): سمعت أبا الحسين محمد بن المظفر يقول: سمعت مشائخنا بمصر
يعترفون لأبي عبد الرحمن النسائي بالتقدم والإمامة ويصفون من اجتهاده في العبادة
بالليل، ومواظبته على الاجتهاد، وأنه خرج إلى الغزو مع والي مصر فوصف من شهامته،
وإقامته السنن المأثورة، واحترازه عن مجالسة السلطان الذي خرج معه ولم يزل ذلك
دأبه إلى أن استشهد رضي الله عنه..
وفي
(
تهذيب
الكمال) للمزي في ترجمة أبي يحيى أحمد بن عبد الملك الحراني شيخ البخاري، ما نصه:
قال أبو الحسن الميموني: سألت أحمد بن حنبل عنه فقال: قد كان عندنا ورأيته كيسا،
وما رأيت به بأسا، رأيته حافظا لحديثه، وما رأيت إلا خيرا فقلت: رأيت جماعة يسيئون
الثناء عليه. قال: هو يغشى السلطان بسبب ضيعة له.
أعز
الأشياء في آخر الزمان
وفي
(
تهذيب
الكمال) بسنده عن رشدين بن سعد قال: سمعت
إبراهيم بن أدهم يقول: سمعت "أعز الأشياء في آخر الزمان ثلاثة: أخ في الله
يؤتسى وكسب درهم من حلال، وكلمة حق عند سلطان".
وعن
خلف بن تميم قال: سمعت إبراهيم بن أدهم ينشد:
أرى
أناسا بأدنى الدين قد قنعوا ... ولا أراهم رضوا في العيش بالدون
فاستغن
بالله عن دنيا الملوك ... كما استغنى الملوك بدنياهم عن الدين
وقال
الشاسي في أماليه: بعث سليمان المهلبي إلى الخيل بن أحمد بمائة ألف درهم، وسأله في
صحبته فرد عليه المائة ألف وكتب إليه بأبيات:
أبلغ
سليمان أني عنه في سعة ... وفي غنى غير أني لست ذا مال
سخي
بنفسي أني لا أرى أحدا ... يموت هزلا ولا يبقى على حال
فالرزق
عن قدر لا العجز ينقصه ... ولا يزيدك فيه حول محتال
والفقر
في النفس لا في المال تعرفه ... ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال
وقال
الجمال اللغوي في كتاب (المعجب) أخبرني بعض الفضلاء: أن الأمير عز الدين حرسك بعث
إلى الشيخ الشاطبي يدعوه للحضور عنده، فأمر الشيخ بعض أصحابه أن يكتب إليه هذه
الأبيات وهي قوله:
قل
للأمير مقالة ... من ناصح فطن نبيه
إن
الفقيه إذا أتى ... أبوابكم لا خير فيه
للمزيد
يمكن قراءة كتاب "ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين " وهو من
روائع الحافظ جلال الدين السيوطي وفيه نصح لأهل العلم بأن يصونوا علمهم عن أبواب
السلاطين، ولا يشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، ويبيعوا الهدى بالضلال.
تعليقات
إرسال تعليق