12 ربيع الأول يوم الرزية والمصيبة والحزن الأكبر.. اليوم الذي بكى فيه جميع المسلمين وأظلمت الأرض

 


شاهد اللحظة التي بكى فيها جميع المسلمين

شاهد اللحظة التي بكى فيها جميع المسلمين.. اختبر نفسك

ربيع الأول ذكرى المولد النبوي ويوم الحزن الأكبر للمسلمين

في الثاني عشر من ربيع الأول كل عام يحتفل المسلمون بذكرى المولد النبوي الشريف .. وإن كان ميلاده ومبعثه صلى الله عليه وسلم أعظم خير للناس فإن هذا اليوم هو أيضاً أعظم الأيام حزناً لكل مسلم

هيا نرى..

ابتعث الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في الأربعين من عمره ومكث في مكة يدعو إلى الإسلام ثلاث عشرة سنة لاقى فيها من الإيذاء والتكذيب والإعراض من قومه ما لاقى ثم هاجر إلى المدينة النبوية حين بايعه الأنصار فأقام بها الدولة الإسلامية وأقام المجتمع المسلم ورباه على خلق الإسلام وشعائر الإسلام وبعث البعوث والسرايا وشارك في الغزوات حتى فتح الله له جزيرة العرب وعاد إلى مكة فاتحاً ودخل الناس في دين الله أفواجا وبعد ثلاث وعشرين سنة من النبوة أدى فيها الأمانة ونصح الأمة وبلغ الرسالة اختاره الله إلى جواره.

 

قبل وفاته بثلاث سنوات

روى أحمد عن أبي هريرة، قال: لَمَّا فُتِحت خيبر، أُهديتْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاةٌ فيها سُمٌّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجمعوا لي مَن كان هنا من اليهود"، فجمعوا له، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "هل أنتم صادِقي عن شيءٍ إذا سألتُكم؟"، فقالوا: نعم يا أبا القاسم، فقال: “هل جعلتُم في هذه الشاة سُمًّا؟"، فقالوا: نعم، قال: "ما حَمَلكم على ذلك؟"، قالوا: "أردنا إن كنتَ كاذبًا أن نستريحَ منك، وإن كنتَ نبيًّا لم يَضرَّك".

وفي الصحيحين عن أنس بن مالك: أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاةٍ مسمومة، فأكَل منها، فجِيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألها عن ذلك، قالت: أردتُ لأقتلك، فقال: "ما كان الله ليُسلِّطَك عليّ"، أو قال: "على ذاك"، قالوا: ألا نقتلها؟ قال: "لا"، قال أنس: فما زلتُ أعرفها في لَهَوَات رسول الله صلى الله عليه وسلم.

واللهوات: جمع لَهَاة، وهي اللحمة الحمراء المعلقة في أعلى الحنك.

ومُراد أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان يَعتريه المرض من تلك الأكلة أحيانًا.

ويقول ابن حجر: "ويُحتمل أن يكون أنس أراد أنه يُعرَف ذلك في اللهوات بتغيير لونها ".

قالت عائشة رضي الله عنها: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعًا ضاحكًا حتى أرى منه لَهَوَاته إنما كان يبتسم" صحيح مسلم.

 

وروى الزهري عن جابر: واحتجَم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبَقِي صلى الله عليه وسلم بعده ثلاث سنين، حتى كان وجعه الذي توفِّي منه، فقال: "ما زلتُ أجد من الأكلة التي أكلتُ من الشاة يوم خيبر، حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري"، فتوفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيدًا.

والأبهر كما قال ابن هشام هو العِرق المُعلَّق بالقلب  - وهو ما يسمى طبياً بالأورطي- وإذا انقطع مات صاحبه.

قال الزهري: فإن كان المسلمون ليَرَوْنَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات شهيدًا، مع ما أكرمه الله به من النبوة.

قالت عَائِشَةُ رضى الله عنها : كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ : يَا عَائِشَةُ ، مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِى أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ ، فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِى مِنْ ذَلِكَ السَّمِّ" . رواه البخاري

 

 

حجة الوداع

عندما حان موعد الحج من العام العاشر للهجرة، أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سيحج بنفسه في الناس هذا الموسم، وأمر بالتجهز للذهاب إلى مكة، ثم ما لبث أن غادر المدينة في الخامس والعشرين من ذي القعدة. وانهال المسلمون على مكة من كل مكان لكي يشهدوا أول حجة مع رسول الله. وانطلق آلاف المسلمين، القدماء والجدد، وراء نبيهم وهو يريهم مناسكهم ويعلمهم سنن حجهم. وفي هذا التجمع الكبير ألقى صلى الله عليه وسلم في أتباعه خطاباً جامعاً يؤكد فيه تعاليم الإسلام التي بعث من أجلها، فوقف بين أيديهم في عرفات، وشفق المغيب يلقي على جبهته مزيدا من النور والمهابة والجلال، وراح يلقي كلماته التي سميت فيما بعد بخطبة الوداع، ومن ورائه رجل جهوري الصوت –ربيعة بن أمية بنخلف- يصرخ بكلمات الرسول صلى الله عليه وسلم ليسمعها ألوف الحجيج قال:

"أيها الناس، اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا.

أيها النّاس! إنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربّكم، كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنّكم ستلقون ربّكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلّغت.

فمن كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها، وإنّ كلّ ربا موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون.

قضى الله أنّه لا ربا، وإنّ ربا العباس بن عبد المطّلب موضوع كلّه.

وإنّ كلّ دم كان في الجاهلية موضوع، وإنّ أول دمائكم أضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب- وكان مسترضعا في بني ليث، فقتلته هذيل- فهو أوّل ما أبدأ به من دماء الجاهليّة.

 

أما بعد: أيها الناس، إنّ الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه أبداً، ولكنّه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم!!.

أيها الناس! إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ ويحرّموا ما أحلّ الله.

وإنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإنّ عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية، ورجب الذي بين جمادى وشعبان.

أما بعد: أيها الناس، فإنّ لكم على نسائكم حقّا، ولهنّ عليكم حقّا.

لكن عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، وعليهنّ ألا يأتين بفاحشة مبيّنة؛ فإن فعلن فإنّ الله قد أذن لكم أن تهجروهنّ في المضاجع، وتضربوهنّ ضربا غير مبرّح، فإن انتهين فلهنّ رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف.

 

واستوصوا بالنساء خيرا، فإنهنّ عندكم عوان، لا يملكن لأنفسهنّ شيئا.

وإنّكم إنّما أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله، فاعقلوا أيها الناس قولي فإنّي قد بلّغت.

 

 

وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا، أمرا بيّنا: كتاب الله وسنّة نبيّه.

أيها الناس: اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمنّ أنّ كلّ مسلم أخ للمسلم، وأنّ المسلمين إخوة، فلا يحلّ لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمنّ أنفسكم، اللهم هل بلغت؟" .

قالوا: اللهم نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهمّ اشهد" .

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يريد- بعد بلاء طويل في إبلاغ الرسالة- أن يفرّغ في آذان الناس وقلوبهم آخر ما لديه من نصح.

 

لقد أجيبت دعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السّلام حين هتف وهو يبني البيت العتيق: { رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ١٢٩ البقرة.

وفي يوم عرفة من هذه الحجة العظيمة نزل قول الله عز وجلّ: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً } المائدة: ٣.

وعندما سمعها عمر بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: إنّه ليس بعد الكمال إلا النقصان. وكأنّه استشعر وفاة النبيّ صلوات الله عليه وسلامه.

 

وبعد ذلك بقليل، قال الرسول صلى الله عليه وسلم للوفود المحتشدة حوله عند جمرة العقبة، ما يشعر بحلول الأجل القريب "خذوا عني مناسككم، فلعلي لا أحج بعد عامي هذا" .

 

بُشَّر النبي صلى الله عليه وسلم باقتراب أجله في آيات عدة من القرآن الكريم؛ منها: قوله تعالى: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } الزمر: 30، وقوله سبحانه: { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } الأنبياء: 34، 35.

وقوله: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } آل عمران: 144، وقوله: { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } النصر: 1 – 3.

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "أُنزلت هذه السورة "إذا جاء نصر الله والفتح" على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق، وعُرِف أنه الوداع" سنن البيهقي.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه سأل الصحابة عن قوله تعالى: { إذا جاء نصر الله والفتح } قالوا: فتح المدائن والقصور، قال: ما تقول يا ابن عباس؟ قال: "أجَل أو مَثَلٌ ضُرِب لمحمد صلى الله عليه وسلم نُعِيَتْ له نفسُه" البخاري.

 

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "أقبلت فاطمة تَمشي كأن مِشيتها مَشْي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مرحبًا يا بُنيَّتي"، ثم أجْلَسها عن يمينه أو عن شماله، ثم أسرَّ إليها حديثًا، فبكتْ، فقلت لها: لِمَ تبكين؟ ثم أسرَّ إليها حديثًا فضحِكتْ، فقالت: ما رأيتُ كاليوم فَرَحًا أقرَبَ من حزنٍ، فسألتها عما قال، فقالت: ما كنت لأُفشي سرَّ النبي صلى الله عليه وسلم حتى قُبِض النبي صلى الله عليه وسلم، فسألتها، فقالت: أسرَّ إليّ أن جبريل كان يُعارضني القرآن مرة، وأنه عارَضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضَر أجَلي، وإنك أوَّل أهل بيتي لحاقًا بي، فبكيتُ، فقال: "أمَا تَرضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة، أو نساء المؤمنين" فضحِكت لذلك" رواه البخاري ومسلم.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "خطَب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، وقال: " إن الله خيَّر عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله" قال: "فبكى أبو بكر، فعجِبنا لبكائه، وكان أبو بكر آنذاك أعْلمنا" البخاري، ومسلم.

وتقول عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول: "إنه لم يُقبض نبيٌّ قطُّ حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يحيا أو يُخيَّر"، فلما اشتكى وحضَره القبضُ ورأسُه على فَخِذ عائشة، غُشِي عليه، فلما أفاق، شخَص ببصره نحو سقف البيت، ثم قال: "اللهمَّ في الرفيق الأعلى" فقلت: إذًا لا يُجاورنا، فعرَفت أنه حديثه الذي كان يُحدثنا وهو صحيح" رواه البخاري.

 

وعلّم صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن كيف يدعو من يلقاهم، فخرج معه إلى ظاهر المدينة يوصيه، ومعاذ راكب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته!.

فلما فرغ قال: "يا معاذ! إنك عسى ألا تلقاني بعد عامي هذا!! ولعلّك أن تمرّ بمسجدي هذا وقبري" ! فبكى معاذ خشعا لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

وقَالَ صلى الله عليه وسلم: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّمَا أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَوْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فَلْيَتَعَزَّ بِمُصِيبَتِهِ بِي عَنِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي تُصِيبُهُ بِغَيْرِي، فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ أُمَّتِي لَنْ يُصَابَ بِمُصِيبَةٍ بَعْدِي أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ مُصِيبَتِي " رواه ابْنُ مَاجَهْ.

خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الخلود في الدنيا وبين لقاء الله، فاختار صلى الله عليه وسلم لقاء ربِّه.

 

مرض الموت

في مطلع ربيع الأول من العام ١١ هـ خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد حيث تنتشر مقابر أهل المدينة، فناداهم واستغفر لهم "السلام عليكم أهل المقابر ليهنأ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شرّ من الأولى" ورجع إلى أهله. وحينذاك بدأ وجع الرسول صلى الله عليه وسلم الذي انتهى بانتقاله إلى الرفيق الأعلى.

عن عائشة رضي الله عنها قالت: "رجع الرسول صلى الله عليه وسلم من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعا في رأسي، وأنا أقول: وارأساه! فقال: بل أنا والله يا عائشة وارأساه".

وروى أحمد وابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها قالت: "رجع عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم من جنازة بالبقيع وأنا أجد صداعًا في رأسي، وأنا أقول: وارأساه، قال: "بل أنا وارأساه" قال: "ما ضرَّك لو مِتِّ قبلي، فغسَّلتُك وكفَّنتُك، ثم صليتُ عليك ودفنتُك" فقلت: لكأني بك والله لو فعلت ذلك رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بدأ في وجعه الذي مات فيه. رواه أحمد، وابن ماجه.

 

وقد ابتدأ وجعه صلى الله عليه وسلم في بيت زوجته ميمونة يوم خميس، وازدادت أوجاعه صلى الله عليه وسلم، ومع هذا  ظل يدور على نسائه حتى شق عليه، فاستأذنهن أن يُمرّض في بيت عائشة رضي الله عنها وكانت أحب نسائه إليه، فأذنّ له، فخرج من عند ميمونة بين الفضل بن العباس وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم.

وكان الألم قد أوهى قواه، فلم يستطع مسيرا.

فانتقل بينهما معصوب الرأس، تخطّ قدماه على الأرض حتى انتهى إلى بيت عائشة فمكث وجعاً اثني عشر يوماً وقيل: أربعة عشر يوماً.

 

في المسجد

وكانت عائشة رضي الله عنها تُحدِّث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعدما دخل بيته واشتدَّ وجعُه: "هَرِيقوا عليّ من سِبع قِرَبٍ لم تُحْلَلْ أَوْكِيتُهنَّ، لعلي أعْهَدُ إلى الناس" رواه البخاري ومسلم.

اشتدّت وطأة المرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتّقدت حرارة العلّة في بدنه.

فطلب أن يأتوه بما يتبرّد به ... ماء كثير!!: "أهريقوا عليّ سبع قرب من آبار شتّى ".

قالت عائشة: فأقعدناه في مخضب لحفصة، ثم صببنا عليه الماء، حتى طفق يقول: "حسبكم، حسبكم".

وعندما أحسّ الرسول صلى الله عليه وسلم بأن سورة الحرّ خفّت عن بدنه، استدعى الفضل ابن عمه العباس فقال: "خذ بيدي يا فضل" وهو موعوك معصوب الرأس، قال الفضل: فأخذت بيده حتى دخل المسجد، وجلس على المنبر. ثم قال: "ناد في الناس" فاجتمعوا إليه.

 

اشرأبّت الأعناق إلى الرجل الذي أحيا موات القلوب، وأخرجهم وذرياتهم ونساءهم من الظلمات إلى النور، تطلّعت إليه الأعين الحائرة فرأته متعبا.

وأنصتوا، فإذا هم يسمعون منه عجبا.. أنّه لما أحس بدنوّ أجله أحبّ أن يلقى الله وليس هناك بشر يطلبه بتبعة.

 

كان أول ما تكلم به أنه صلى على أصحاب أحد واستغفر لهم ثم قال: "إن عبدا من عباد الله خيّره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله".

فهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه مغزى كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وعرف أنه يريد نفسه، فبكى، وقال: بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا.

قال أبو سعيد الخدري: فتعجبنا له، وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد يخيّر، ويقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا!.

قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيّر، وكان أبو بكر أعلمنا به.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على رسلك يا أبا بكر" ثم التفت إلى من حوله وقال: "انظروا هذه الأبواب الشارعة في المسجد فسدّوها، إلا بيت أبي بكر، فإني لا أعلم أحدا كان أفضل في الصحبة عندي يداً منه.. ولو كنت متخذا من العباد خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صحبة وإخاء وإيمان حتى يجمع الله بيننا عنده".

 

وروى الطبراني في الكبير والاوسط عن الفضل بن العباس قال : جاءني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرجت إليه ، فوجدته موعوكا ، قد عصب رأسه قال : " خذ بيدي يا فضل " . فأخذت بيده حتى انتهى إلى المنبر ، فجلس عليه ، ثم قال : " صح في الناس " . فصحت في الناس فاجتمع ناس ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : " يا أيها الناس ، إني قد دنا مني حقوق من بين أظهركم ; فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه ، ألا ومن كنت قد شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه ، ومن كنت أخذت له مالا فهذا مالي فليستقد منه ، لا يقولن رجل : إني أخشى الشحناء من قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا وإن الشحناء ليست من طبيعتي ولا من شأني ، ألا وإن أحبكم إلي من أخذ حقا إن كان له ، أو حللني ، فلقيت الله وأنا طيب النفس ، ألا وإني لا أرى ذلك مغنيا عني حتى أقوم فيكم مرارا " . ثم نزل فصلى الظهر ، ثم عاد إلى المنبر ، فعاد لمقالته في الشحناء أو غيرها ، ثم قال : " يا أيها الناس ، من كان عنده شيء فليرده ، ولا يقل : فضوح الدنيا ، ألا وإن فضوح الدنيا أيسر من فضوح الآخرة " . فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله ، إن لي عندك ثلاثة دراهم . قال : " أما إنا لا نكذب قائلا ، ولا نستحلفه ، فبم صارت لك عندي ؟ " . قال : تذكر يوم مر بك مسكين فأمرتني أن أدفعها إليه ؟ فقال : " ادفعها إليه يا فضل " . ثم قام إليه رجل آخر قال : عندي ثلاثة دراهم غللتها في سبيل الله . قال : " ولم غللتها ؟ " . قال : كنت محتاجا إليها . قال : " خذها يا فضل " . ثم قال : " أيها الناس ، من خشي من نفسه شيئا فليقم أدع له " . فقام رجل فقال : يا رسول الله ، والله إني لكذاب ، وإني لمنافق ، وإني لنؤوم ؟ قال : " اللهم ارزقه صدقا ، وإيمانا ، وأذهب عنه النوم إذا أراد " . ثم قام آخر فقال : يا رسول الله ، إني لكذاب ، وإني لمنافق ، وما من شيء من الأشياء إلا وقد أتيته ! فقال له عمر : يا هذا فضحت نفسك ! قال : " مه يا ابن الخطاب ، فضوح الدنيا أيسر من فضوح الآخرة " . ثم قال : " اللهم ارزقه صدقا ، وإيمانا ، وصير أمره إلى خير " . فكلمهم عمر بكلمة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " عمر معي ، وأنا معه ، والحق بعدي مع عمر حيث كان ".

وقبل نزوله من المنبر دعا صلى الله عليه وسلم لأصحابه "آواكم الله، حفظكم الله، نصركم الله، ثبَّتكم الله، أيَّدكم الله، ثم قال: أيها الناس، أقرِئوا مني السلام كلَّ مَن تبعني من أمتي إلى يوم القيامة.

وعاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته اللاصق بالمسجد وخرج يمشي بين رجلين من أهله، علي والفضل بن عباس، عاصباً رأسه، تخط قدماه، حتى دخل بيت عائشة.

 

شدة المرض على النبي صلى الله عليه وسلم

طلب الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن أعجزه المرض أن يأمروا أبا بكر ليصلي بالناس، فقالت عائشة: يا نبي الله إن أبا بكر رجل رقيق، ضعيف الصوت كثير البكاء إذا قرأ القرآن. قال: فمروه فليصل بالناس.. وكانت عائشة ترمي من وراء ذلك ألا يدفع أبوها إلى موقف يؤدي إلى تشاؤم الناس منه: "لأن الناس لا يحبون رجلا قام مقام نبيهم أبدا" ..

فكرّرت عائشة اعتراضها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّكنّ صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس".

وصلّى أبو بكر بالناس سبع عشرة صلاة .

وقد صلى عليه الصلاة والسلام خلف الصديق جالساً.

ومن شدة وجعه كان يغمى عليه في مرضه ثم يفيق وحصل له ذلك غير مرة فأغمي عليه مرة وظنوا أن وجعه ذات الجنب فلدوه فلما أفاق أنكر ذلك وقال: "إن الله لم يكن ليسلطها علي - يعني ذات الجنب- ولكنه من الأكلة التي أكلتها يوم خيبر" .

وقالت عائشة: ما رأيت أحدا كان أشد عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عنده في مرضه سبعة دنانير فكان يأمرهم بالصدقة بها ثم يغمى عليه فيشتغلون بوجعه فدعا بها فوضعها في كفه يأمرهم بالصدقة بها ثم يغمى عليه فيشتغلون بوجعه فدعا بها فوضعها في كفه وقال: "ما ظن محمد بربه لو لقي الله وعنده هذه" ثم تصدق بها كلها.

فكيف يكون حال من لقي الله وعنده دماء المسلمين وأموالهم المحرمة ما ظنه بربه؟!.

 

وزادت وطأة المرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعانى من برحائه ألما مضاعفا، حتى تأذّت فاطمة ابنته من شدّة ما يلقى فعن أنس رضي الله عنه قال: "لَمَّا ثقُل المرض على النبي صلى الله عليه وسلم، جعل يتغشَّاه، فقالت فاطمة: واكَرْبَ أباه، فقال لها: "ليس على أبيك كَرْبٌ بعد اليوم" رواه البخاري.

 

وترامت أخبار مرض النبي صلى الله عليه وسلم إلى جيش أسامة، فشاع الحزن والاضطراب في صفوفه، عن محمد بن أسامة عن أبيه قال: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم هبطت وهبط الناس معي إلى المدينة، فدخلنا على رسول الله، وقد أصمت لا يتكلم، فجعل يرفع يده إلى السماء ثم يضعها عليّ، فعرفت أنه يدعو لي .

وكان إلى جواره قدح فيه ماء يغمس فيه يده ثم يمسح وجهه بالماء، ويقول: "اللهمّ أعنّي على سكرة الموت".

 

وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "دخلتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُوعَك وعكًا شديدًا، فمسستُه بيدي، فقلت: يا رسول الله، إنك لتُوعَك وعكًا شديدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجَل، إني أُوعَك كما يُوعَك الرجلان منكم" رواه البخاري ومسلم.

يقول العباس رضي الله عنه: "وكنت إذا لَمستُه، ضربتني الحُمَّى".

 

قبيل موته عليه الصلاة والسلام

وفي يوم الاثنين الذي توفي في ضحاه خرج صلى الله عليه وسلم لكي يلقي نظرة على أصحابه، وكأنّ الله أراد أن يطمئنه على كمال انقيادهم وحسن اتباعهم، فأشهده آخر وقت حضره وهو في الدنيا، إذ أقبل المؤمنون من بيوتهم إلى المسجد واصطفوا لصلاتهم خشّعا مخبتين وراء أبي بكر، ورفع النبيّ صلى الله عليه وسلم الستر المضروب على منزل عائشة، وفتح الباب وبرز للناس. وهم يقفون صفوفا يؤدون الصلاة، وما أن رفع الستر وأطل على المسلمين حتى كادوا يفتنون في صلاتهم برسول الله حين رأوه فرحاً به، وانبسطت سرائرهم فأشار إليهم أن اثبتوا على صلاتكم، وتبسّم سروراً لما رأى من هيأتهم في صلاتهم. ونكص أبو بكر إلى الوراء اعتقادا منه أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيؤم بنفسه المسلمين في صلاتهم هذه، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم تقدم إليه ودفعه في ظهره قائلا: صلّ بالناس، وجلس إلى جنبه، وصلى قاعدا عن يمين أبي بكر. فلما فرغوا من الصلاة راح الرسول صلى الله عليه وسلم يتحدث إليهم رافعا صوته، حتى ظن أصحابه أن قد زال ما به من وجع.

فاستأذنه أبو بكر في الذهاب إلى أهله بالسنح، إحدى ضواحي المدينة.

قال أنس بن مالك: ما رأيت رسول الله أحسن هيئة منه في تلك الساعة".

ثم رجع وانصرف الناس، وهم يظنّون أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أفاق من وجعه.

وعن عبد الله بن كعب بن مالك أن ابن عباس أخبره: أنّ عليّ بن أبي طالب خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي فيه، فقال الناس: يا أبا حسن! كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أصبح بحمد الله بارئا.

فأخذ بيده العبّاس بن عبد المطلب فقال: ألا ترى؟ إنك بعد ثلاث عبد العصا، وإنّي أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم سيتوفّى في وجعه هذا، وإنّي لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت..!

فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسله فيمن يكون هذا الأمر، فإن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا استوصى بنا خيرا، قال عليّ: والله لئن سألناها رسول الله فمنعناها لا يعطيناها الناس أبدا، والله لا أسألها رسول الله أبدا".

وكان النبي صلى الله عليه وسلم نفسه قد همّ بكتابة عهد يمنع شغب الطامعين في الحكم، ثم بدا له فاختار أن يدع المسلمين وشأنهم، يختارون لإمارتهم من يحبّون .

عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَابًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ - أَوْ كَشَفَ سِتْرًا - فَإِذَا النَّاسُ يُصَلُّونَ وَرَاءَ أَبِي بَكْرٍ، فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى مَا رَأَى مِنْ حُسْنِ حَالِهِمْ رَجَاءَ أَنْ يخلفه فِيهِمْ بِالَّذِي رَآهُمْ .

 

في اللحظات الأخيرة

ومع فيح الحمّى وحدّة مسّها لبدنه فقد ظلّ يقظ الذّهن، حريصا على أمته وكان يخشى أن ترتكس أمته فتتعلّق بالأشخاص (الأضرحة) كما ارتكس أهل الكتاب الأولون.

وشدد على إخلاص التوحيد لله وهو يعالج سكرات الموت، فعن عائشة وابن عباس قالا: لمّا نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتمّ كشفها عن وجهه فقال- وهو كذلك-: "لعنة الله على اليهود والنّصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" - يحذّر مثل ما صنعوا.

وكان يخشى أن تغلب شهوات الغيّ والكبر على أمته.

فإن الذين يتبعون شهوات الغيّ ينسون الصلاة، والذين يتبعون شهوات الكبر يطغون على ما تحت أيديهم من خدم وضعاف ورقيق.

هذه الخشية حملت النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة أن ينبّه المسلمين إلى معاقد الخير ليتمسّكوا بها.

عن أنس بن مالك قال: كانت عامّة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم- حين حضره الموت-: "الصلاة وما ملكت أيمانكم" ، حتى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يغرغر بها صدره، وما يكاد يفيض بها لسانه".

 

لحظة وفاته صلى الله عليه وسلم

قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي تحدثنا عن اللحظات الأخيرة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم: "رجع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم حين دخل من المسجد، فاضطجع في حجري، فدخل عليّ رجل من آل أبي بكر وفي يده سواك أخضر، فنظر رسول الله إليه في يده نظرة عرفت أنه يريده فقلت: يا رسول الله أتحب أن أعطيك هذا السواك؟

قال: نعم. فأخذته فمضغته حتى لينته ثم أعطيته إياه، فاستنّ به كأشد ما رأيته يستن بسواك قط ثم وضعه.

قالت: "فَجَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ الدُّنْيَا وَأَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ الْآخِرَةِ".

قالت: ووجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثقل في حجري، فذهبت أنظر في وجهه فإذا بصره قد شخص وهو يقول: "بل الرفيق الأعلى من الجنة" ، فقلت: خيّرت فاخترت والذي بعثك بالحق! وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "قاتل الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" ويردّد "الصلاة وما ملكت أيمانكم" حتى جعل يغرغر بها صدره وما يكاد يفيض بها لسانه.

وقالت "قَبَضَهُ اللَّهُ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي" أي وهو مستند إلى صدرها.

ولم يقبض صلى الله عليه وسلم حتى خير مرة أخرى بين الدنيا والآخرة قالت عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه لم يقبض نبي حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير" فلما نزل به ورأسه على فخذي غشي عليه ساعة ثم أفاق فأشخص بصره إلى سقف البيت ثم قال: "اللهم الرفيق الأعلى" فقلت: الآن لا يختارنا وعلمت أنه الحديث الذي كان يحدثناه وهو صحيح فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها. وفي رواية أنه قال: "اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى" وفي رواية "أنه أصابه بحة شديدة فسمعته يقول: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء: ٦٩] قالت: فظننت أنه خيّر.

 

دفنه صلى الله عليه وسلم

ورغم المصيبة العظمى فإنّ أهله وأصحابه لم ينوحوا عليه لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقد رَوَى أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ حَكِيمِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِيهِ - فِيمَا أَوْصَى بِهِ إِلَى بَنِيهِ - أَنَّهُ قَالَ: وَلَا تَنُوحُوا عَلِيًّ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنَحْ عَلَيْهِ وَقَدْ سَمِعْتُهُ يَنْهَى عَنِ النِّيَاحَةِ.

وروى أَحْمد عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي قَدِمَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَضَاء مِنْهَا كل شئ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كل شئ.

قَالَ: وَمَا نَفَضْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَيْدِيَ حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا.

وقال: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَظْلَمَتِ الْمَدِينَةُ حَتَّى لَمْ ينظر بَعْضنَا إِلَى بَعْضٍ، وَكَانَ أَحَدُنَا يَبْسُطُ يَدَهُ فَلَا يَرَاهَا أَوْ لَا يُبْصِرُهَا، وَمَا فَرَغْنَا مِنْ دَفْنِهِ حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا. رَوَاهُ البيهقي

 

قبض صلى الله عليه وسلم ضحى يوم الإثنين من ربيع الأول، والمشهور أنه الثاني عشر منه، وقيل مستهله وقيل غير ذلك.

وكان عمره يوم مات صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين سنة، على الصحيح، قالوا: ولها مات أبو بكر وعمر وعلي وعائشة رضي الله عنهم.

واشتدت الرزية بموته صلى الله عليه وسلم، وعظم الخطب وجل الأمر، وأصيب المسلمون بنبيهم.

وماج الناس، وجاء الصديق المؤيد المنصور رضي الله عنه فأقام الأود، وصدع بالحق، وخطب الناس .

ثم ذهب المسلمون به إلى سقيفه بني ساعدة وقد اجتمعوا على إمرة سعد بن عبادة، فصدهم عن ذلك وردهم، وأشار عليهم بعمر بن الخطاب أو بأبي عبيدة بن الجراح، فأبيا ذلك والمسلمون، وأبى الله ذلك أيضاً، فبايعه المسلمون رضي الله عنهم هناك، ثم جاء فبايعه الناس البيعة العامة على المنبر.

ثم شرعوا في جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغسلوه في قميصه، وكان الذي تولى ذلك عمه العباس، وابنه قثم، وعلي بن أبي طالب، وأسامة بن زيد، وشقران ـ مولياه ـ يصبان الماء، وساعد في ذلك أوس بن خولي الأنصاري البدري، رضي الله عنهم أجمعين.

وكفنوه في ثلاثة أثواب قطن بيض ليس فيها قميص.

وصلوا عليه أفراداً واحداً واحداً، وكان أولهم عليه صلاة العباس عمه، ثم بنو هاشم، ثم المهاجرون، ثم الأنصار، ثم سائر الناس، فلما فرغ الرجال صلى الصبيان ثم النساء.

ودفن صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء، وقيل: ليلة الأربعاء سحراً، في الموضع الذي توفي فيه من حجرة عائشة.

 

وروى أَحْمَدُ عن بَهْزٌ: إِنَّهُ شَهِدَ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالُوا: كَيفَ نصلى، قَالَ: ادْخُلُوا أَرْسَالًا أَرْسَالًا، فَكَانُوا يَدْخُلُونَ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنَ الْبَابِ الْآخَرِ.

وعن عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: مَا عَلِمْنَا بِدَفْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَمِعْنَا صَوْتَ الْمَسَاحِي فِي جَوْفِ لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ.

وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: بَيْنَا نَحْنُ مُجْتَمِعُونَ نَبْكِي لَمْ نَنَمْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بُيُوتِنَا وَنَحْنُ نَتَسَلَّى بِرُؤْيَتِهِ عَلَى السَّرِيرِ، إِذْ سَمِعْنَا صَوْتَ الْكَرَازِينِ فِي السَّحَرِ –وهي الفؤوس-.

قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَصِحْنَا وَصَاحَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ، فَارْتَجَّتِ الْمَدِينَةُ صَيْحَةً وَاحِدَةً، وَأَذَّنَ بِلَالٌ بِالْفَجْرِ، فَلَمَّا ذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَكَى وانتحب، فَزَادَنَا حُزْنًا وَعَالَجَ النَّاسُ الدُّخُولَ إِلَى قَبْرِهِ فغلق دونهم، فيالها مِنْ مُصِيبَةٍ مَا أُصِبْنَا بَعْدَهَا بِمُصِيبَةٍ إِلَّا هَانَتْ إِذَا ذَكَرْنَا مُصِيبَتَنَا بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

 

اصبر لكل مصيبة وتجلد ... واعلم بأن المرء غير مخلد

واصبر كما صبر الكرام فإنها ... نوب تنوب اليوم تكشف في غد

وإذا أتتك مصيبة تشجى بها ... فاذكر مصابك بالنبي محمد

وقال بعضهم:

تذكرت لما فرّق الدهر بيننا ... فعزيت نفسي بالنبي محمد

وقلت لها إن المنايا سبيلنا ... فمن لم يمت في يومه مات في الغد

وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: رُشَّ عَلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَاءُ رَشًّا، وَكَانَ الَّذِي رَشَّهُ بِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ بِقِرْبَةٍ، بَدَأَ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ مِنْ شِقِّهِ الْأَيْمَنِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى رِجْلَيْهِ، ثُمَّ ضَرَبَ بِالْمَاءِ إِلَى الْجِدَارِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَنْ يَدُورَ مِنَ الْجِدَارِ.

 

وقد دُفِنَ صلى الله عليه وسلم فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ الَّتِي كَانَتْ تَخْتَصُّ بِهَا شَرْقِيَّ مَسْجِدِهِ فِي الزَّاوِيَةِ الْغَرْبِيَّةِ الْقِبْلِيَّةِ مِنَ الْحُجْرَةِ.

ثُمَّ دُفِنَ بَعْدَهُ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.

وجُعِلَ قَبْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم مسطحًا.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: عَن هِشَام، عَن عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا سَقَطَ عَلَيْهِمُ الْحَائِطُ فِي زَمَانِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَخَذُوا فِي بِنَائِهِ فَبَدَتْ لَهُمْ قَدَمٌ فَفَزِعُوا فظنوا أَنَّهَا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا وُجِدَ وَاحِدٌ يَعْلَمُ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ لَهُمْ عُرْوَة: لَا وَالله ما هى قَدَمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; مَا هِيَ إِلَّا قَدَمُ عُمَرَ.

 

وروى مُوسَى بْنُ عقبَة قَالَ: وَرَجَعَ النَّاسُ حِينَ فَرَغَ أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْخُطْبَةِ وَأُمُّ أَيْمَنَ –التي كانت حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم وهو طفل- قَاعِدَةٌ تَبْكِي، فَقِيلَ لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟ قَدْ أَكْرَمَ اللَّهُ نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأدْخلهُ جنته، وأراحه من نصب الدُّنْيَا.

 فَقَالَتْ: إِنَّمَا أَبْكِي عَلَى خَبَرِ السَّمَاءِ كَانَ يَأْتِينَا غَضًّا جَدِيدًا كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَقَدِ انْقَطَعَ وَرُفِعَ، فَعَلَيْهِ أَبْكِي. فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْ قَوْلِهَا.

وروى أَحْمَدُ أَنَّ أُمَّ أَيْمَنَ بَكَتْ لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهَا مَا يُبْكِيكِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَتْ: إِن قد علمت أَن رَسُول الله سَيَمُوتُ، وَلَكِنِّي إِنَّمَا أَبْكِي عَلَى الْوَحْيِ الَّذِي رُفِعَ عَنَّا.

وروى البيهقي عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ زَائِرًا وَذَهَبْتُ مَعَهُ، فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ شَرَابًا.

فَإِمَّا كَانَ صَائِمًا وَإِمَّا كَانَ لَا يُرِيدُهُ فَرَدَّهُ، فَأَقْبَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُضَاحِكُهُ.

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ نَزُورُهَا.

فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ.

فَقَالَا لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لرَسُوله.

قَالَت: وَالله مَا أبكى أَلا أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لرَسُوله، وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ.

فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ.

 

الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم

روى الْبَزَّارُ عنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ يُبَلِّغُونِي عَن أمتى السَّلَام ".

وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُحَدِّثُونَ وَيُحَدَّثُ لَكُمْ، وَوَفَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالَكُمْ، فَمَا رَأَيْتُ مِنْ خَيْرٍ حَمِدْتُ اللَّهَ عَلَيْهِ، وَمَا رَأَيْتُ مِنْ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ اللَّهَ لَكُمْ ".

وروى مُسْلِمُ عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ رَحْمَةَ أُمَّةٍ مِنْ عِبَادِهِ قَبَضَ نَبِيَّهَا قَبْلَهَا فَجَعْلَهُ لَهَا فَرَطًا وَسَلَفًا يَشْهَدُ لَهَا، وَإِذَا أَرَادَ هِلْكَةَ أُمَّةٍ عَذَّبَهَا وَنَبِيُّهَا حَيٌّ فَأَهْلَكَهَا وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا فَأَقَرَّ عَيْنَهُ بِهَلَكَتِهَا حِينَ كَذَّبُوهُ وَعَصَوْا أَمْرَهُ ".

 

وروى أَحْمَدُ عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ قُبِضَ، وَفِيهِ النَّفْخَةُ، وَفِيهِ الصَّعْقَةُ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ ".

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرِمْتَ؟ - يَعْنِي قَدْ بَلِيتَ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ ".

 

وَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ، وَاشْرَأَبَّتِ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ وَنَجَمَ النِّفَاقُ، وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ كَالْغَنَمِ الْمَطِيرَةِ فِي اللَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ لِفَقْدِ نَبِيِّهِمْ، حَتَّى جَمَعَهُمُ اللَّهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

حتى أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ مَكَّةَ لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَمُّوا بِالرُّجُوعِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَأَرَادُوا ذَلِكَ، حَتَّى خَافَهُمْ عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الذي ولاه النبي صلى الله عليه وسلم على مكة فَتَوَارَى، فَقَامَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ ذَكَرَ وَفَاةِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَزِدِ الْإِسْلَامَ إِلَّا قُوَّةً، فَمَنْ رَابَنَا ضَرَبْنَا عُنُقَهُ.

فَتَرَاجَعَ النَّاسُ وَكَفُّوا عَمَّا هَمُّوا بِهِ، فَظَهَرَ عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ.

فَهَذَا الْمَقَامُ الَّذِي أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله لعمر الْخطاب - يعْنى حِينَ أَشَارَ بِقَلْعِ ثَنِيَّتِهِ حِينَ وَقَعَ فِي الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ -: إِنَّهُ عَسَى أَنْ يَقُومَ مقَاما لَا تذمَّنَّه! .

ووقعت الرِّدَّةِ فِي أَحْيَاءٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْعَرَبِ، وادعى النبوة مُسَيْلِمَةَ الكذاب بِالْيَمَامَةِ، وَالْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ بِالْيَمَنِ، وَكانَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ ما كان حَتَّى فَاءُوا وَرَجَعُوا إِلَى اللَّهِ تَائِبِينَ نَازِعِينَ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ فِي حَالِ رِدَّتِهِمْ مِنَ السَّفَاهَةِ وَالْجَهْلِ الْعَظِيمِ الَّذِي اسْتَفَزَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِهِ، حَتَّى نَصَرَهُمُ اللَّهُ وَثَبَّتَهُمْ وَرَدَّهُمْ إِلَى دِينِهِ الْحَقِّ عَلَى يَدَيِ الْخَلِيفَةِ الصِّدِّيقِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ الله عَنهُ وأرضاه.

 

لم يترك درهما ولا ديناراً

ولم يترك النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند موته دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَلَا عَبْدًا وَلَا أَمَةً وَلَا شَاةً وَلَا بَعِيرًا وَلَا شَيْئًا يُورَثُ عَنْهُ، بَلْ أَرْضًا جَعَلَهَا كلهَا صَدَقَة لله عز وجل فَإِنَّ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا كَانَتْ أَحْقَرَ عِنْدَهُ - كَمَا هِيَ عِنْدَ اللَّهِ - مِنْ أَنْ يَسْعَى لَهَا أَوْ يَتْرُكَهَا بَعْدَهُ مِيرَاثًا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى إِخْوَانِهِ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

روى البُخَارِيّ عَنْ عَمْرِو ابْن الْحَارِثِ، قَالَ: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَلَا عَبْدًا وَلَا أَمَةً، إِلَّا بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ الَّتِي كَانَ يَرْكَبُهَا، وَسِلَاحَهُ، وَأَرْضًا جَعَلَهَا لِابْنِ السَّبِيلِ صَدَقَةً.

 

وروى أَحْمَدُ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَلَا شَاةً وَلَا بَعِيرًا وَلَا أوصى بشئ.

وفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ.

قَالَتْ: تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلَاثِينَ صاعاً من شعير.

قَالَ أَنَسٌ: وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَصْبَحَ عِنْدَ آلِ مُحَمَّدٍ صَاعُ بُرٍّ وَلَا صَاعُ تَمْرٍ ".

وَإِنَّ لَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعَ نِسْوَةٍ، وَلَقَدْ رَهَنَ دِرْعًا لَهُ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِالْمَدِينَةِ وَأَخَذَ مِنْهُ طَعَامًا فَمَا وَجَدَ مَا يَفْتَكُّهَا بِهِ حَتَّى مَاتَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وروى أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ; أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرَ إِلَى أُحُدٍ فَقَالَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ أُحُدًا لِآلِ مُحَمَّدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَمُوتُ يَوْمَ أَمُوتُ وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارَانِ إِلَّا أَنْ أُرْصِدَهُمَا لِدَيْنٍ ".

قَالَ: فَمَاتَ فَمَا تَرَكَ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَلَا عَبْدًا وَلَا وليدة، فَترك دِرْعَهُ رَهْنًا عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ.

وروى أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ وَهُوَ عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ.

فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْتَ فِرَاشًا أَوْثَرَ مِنْ هَذَا؟ فَقَالَ: " مالى وَلِلدُّنْيَا، مَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ سَارَ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ فَاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا ".

وروى البُخَارِيّ عَنْ طَلْحَةَ، قَالَ سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى: أَأَوْصَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: لَا.

فَقُلْتُ: كَيْفَ كُتِبَ عَلَى النَّاسِ الْوَصِيَّةُ، أَوْ أُمِرُوا بهَا؟ قَالَ: أوصى بِكِتَاب الله عز وجل.

وقد ورد أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي ذِكْرِ أَشْيَاءَ كَانَ يَخْتَصُّ بِهَا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ مِنْ دُورٍ ومساكن نِسَائِهِ وإماء وَعبيد وَخُيُولٍ وَإِبِلٍ وَغَنَمٍ وَسِلَاحٍ وَبَغْلَةٍ وَحِمَارٍ وَثِيَابٍ وَأَثَاثٍ وَخَاتَمٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام تَصَدَّقَ بِكَثِيرٍ مِنْهَا فِي حَيَاتِهِ مُنْجِزًا، وَأَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقَ مِنْ إِمَائِهِ وَعَبِيدِهِ، وَأَرْصَدَ مَا أَرْصَدَهُ مِنْ أَمْتِعَتِهِ، مَعَ مَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْأَرَضِينَ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ وَخَيْبَرَ وَفَدَكَ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ ولَمْ يُخَلِّفْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا يُورَثُ عَنْهُ .

 

 

قال حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَبْكِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

بَطَيْبَةَ رَسْمٌ لِلرَّسُولِ وَمَعْهَدُ * مُنِيرٌ وَقَدْ تَعْفُو الرُّسُومُ وَتَهْمُدُ

وَلَا تَمْتَحِي الْآيَاتُ مِنْ دَارِ حُرْمَةٍ * بِهَا مِنْبَرُ الْهَادِي الَّذِي كَانَ يَصْعَدُ

وَوَاضِحُ آيَاتٍ وَبَاقِي مَعَالِمٍ * وَرَبْعٌ لَهُ فِيهِ مُصَلًّى وَمَسْجِدُ

بِهَا حُجُرَاتٌ كَانَ يَنْزِلُ وَسْطَهَا * مِنَ اللَّهِ نُورٌ يُسْتَضَاءُ وَيُوقَدُ

مَعَارِفُ لَمْ تُطْمَسْ عَلَى الْعَهْدِ آيُهَا * أَتَاهَا الْبِلَى فَالْآيُ مِنْهَا تَجَدَّدُ

عَرَفْتُ بِهَا رَسْمَ الرَّسُولِ وَعَهْدَهُ * وَقَبْرًا بِهَا وَارَاهُ فِي التُّرْبِ مَلْحَدُ

ظَلِلْتُ بِهَا أَبْكِي الرَّسُولَ فأسعدت * عُيُون ومثلاها من الْجِنّ تُسْعِدُ

يُذَكِّرْنَ آلَاءَ الرَّسُولِ وَلَا أَرَى * لَهَا مُحْصِيًا نَفْسِي فَنَفْسِي تَبَلَّدُ

مُفَجَّعَةٌ قَدْ شَفَّهَا فَقْدُ أَحْمَدٍ * فَظَلَّتْ لِآلَاءِ الرَّسُولِ تَعَدَّدُ

وَمَا بَلَغَتْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ عَشِيرَهُ * وَلَكِنْ لِنَفْسِي بَعْدُ مَا قَدْ تَوَجَّدُ

أَطَالَتْ وُقُوفًا تَذْرِفُ الْعَيْنُ جُهْدَهَا * عَلَى طَلَلِ الْقَبْرِ الَّذِي فِيهِ أَحْمَدُ

فَبُورِكْتَ يَا قَبْرَ الرَّسُولِ وَبُورِكَتْ * بِلَادٌ ثوى فِيهَا الرشيد المسدد

وَبُورِكَ لَحْدٌ مِنْكَ ضُمِّنَ طَيِّبًا * عَلَيْهِ بِنَاءٌ مِنْ صَفِيحٍ مُنَضَّدُ

تُهِيلُ عَلَيْهِ التُّرْبَ أَيْدٍ وَأَعْيُنٌ * عَلَيْهِ - وَقَدْ غَارَتْ بِذَلِكَ أَسْعُدُ

لَقَدْ غَيَّبُوا حِلْمًا وَعِلْمًا وَرَحْمَةً * عَشِيَّةَ عَلَّوْهُ الثَّرَى لَا يُوَسَّدُ

وَرَاحُوا بِحُزْنٍ لَيْسَ فِيهِمْ نَبِيُّهُمْ * وَقد وهنت مِنْهُم ظُهُور وأعضد

ويبكون من تبكى السَّمَوَات يَوْمَهُ * وَمَنْ قَدْ بَكَتْهُ الْأَرْضُ فَالنَّاسُ أَكْمَدُ

وَهَلْ عَدَلَتْ يَوْمًا رَزِيَّةُ هَالِكٍ * رَزِيَّةَ يَوْمٍ مَاتَ فِيهِ مُحَمَّدُ

تَقَطَّعَ فِيهِ مُنْزَلُ الْوَحْيِ عَنْهُمُ * وَقَدْ كَانَ ذَا نُورٍ يَغُورُ وَيُنْجِدُ

يَدَلُّ عَلَى الرَّحْمَنِ مَنْ يَقْتَدِي بِهِ * وَيُنْقِذُ مِنْ هَوْلِ الْخَزَايَا وَيُرْشِدُ

إِمَامٌ لَهُمْ يَهْدِيهِمُ الْحَقَّ جَاهِدًا * مُعَلِّمُ صِدْقٍ إِنْ يُطِيعُوهُ يَسْعَدُوا

عَفُوٌّ عَنِ الزَّلَّاتِ يَقْبَلُ عُذْرَهُمْ * وَإِنْ يُحْسِنُوا فَاللَّهُ بِالْخَيْرِ أَجْوَدُ

وَإِنْ نَابَ أَمْرٌ لَمْ يَقُومُوا بِحَمْلِهِ * فَمِنْ عِنْدِهِ تَيْسِيرُ مَا يَتَشَدَّدُ

فَبينا هم فِي نعْمَة الله وَسطهمْ * دَلِيلٌ بِهِ نَهْجُ الطَّرِيقَةِ يُقْصَدُ

عَزِيزٌ عَلَيْهِ أَنْ يَجُورُوا عَنِ الْهُدَى * حَرِيصٌ عَلَى أَنْ يَسْتَقِيمُوا وَيَهْتَدُوا

عَطُوفٌ عَلَيْهِمْ لَا يُثَنِّي جَنَاحَهُ * إِلَى كنف يحنو عَلَيْهِ وَيَمْهَدُ

فَبَيْنَاهُمُ فِي ذَلِكَ النُّورِ إِذْ غَدَا * إِلَى نُورِهِمْ سَهْمٌ مِنَ الْمَوْتِ مُقْصِدُ

فَأَصْبَحَ مَحْمُودًا إِلَى اللَّهِ رَاجِعًا * يُبَكِّيهِ حَقُّ الْمُرْسَلَاتِ وَيَحْمَدُ

وَأَمْسَتْ بِلَادُ الْحُرْمِ وَحْشًا بِقَاعُهَا * لِغَيْبَةِ مَا كَانَتْ مِنَ الْوَحْيِ تَعْهَدُ

قِفَارًا سِوَى مَعْمُورَةِ اللَّحْدِ ضَافَهَا * فَقِيدٌ يُبَكِّيهِ بَلَاطٌ وَغَرْقَدُ

ومسجده فالموحشات لفقده * خلاء لَهُ فِيهَا مقَام ومقعد

وَبِالْجَمْرَةِ الْكُبْرَى لَهُ ثَمَّ أَوْحَشَتْ * دِيَارٌ وَعَرْصَاتٌ وَرَبْعٌ وَمَوْلِدُ

فَبَكِّي رَسُولَ اللَّهِ يَا عَيْنُ عَبْرَةً * وَلَا أَعْرِفَنْكِ الدَّهْرَ دَمْعُكِ يَجْمُدُ

وَمَالَكِ لَا تَبْكِينِ ذَا النِّعْمَةِ الَّتِي * عَلَى النَّاسِ مِنْهَا سَابِغٌ يَتَغَمَّدُ

فَجُودِي عَلَيْهِ بِالدُّمُوعِ وَأَعْوِلِي * لِفَقْدِ الَّذِي لَا مِثْلُهُ الدَّهْرَ يُوجَدُ

وَمَا فَقَدَ الْمَاضُونَ مِثْلَ مُحَمَّدٍ * وَلَا مِثْلُهُ حَتَّى الْقِيَامَةِ يُفْقَدُ

أَعَفَّ وَأَوْفَى ذِمَّةً بَعْدَ ذِمَّةٍ * وَأَقْرَبَ مِنْهُ نَائِلًا لَا يُنَكَّدُ

وَأَبْذَلَ مِنْهُ لِلطَّرِيفِ وَتَالِدٍ * إِذَا ضَنَّ مِعْطَاءٌ بِمَا كَانَ يتلد

وَأكْرم حَيا فِي الْبُيُوتِ إِذَا انْتَمَى * وَأَكْرَمَ جَدًّا أَبْطَحِيًّا يُسَوَّدُ

وَأَمْنَعَ ذِرْوَاتٍ وَأَثْبَتَ فِي الْعُلَا * دَعَائِمَ عِزٍّ شَاهِقَاتٍ تُشَيَّدُ

وَأَثْبَتَ فَرْعًا فِي الْفُرُوعِ وَمَنْبِتًا * وَعُودًا غَذَاهُ الْمُزْنُ فَالْعُودُ أَغْيَدُ

رَبَاهُ وليدا فاستم تَمَامُهُ * عَلَى أَكْرَمِ الْخَيْرَاتِ رَبٌّ مُمَجَّدُ

تَنَاهَتْ وَصَاةُ الْمُسْلِمِينَ بِكَفِّهِ * فَلَا الْعِلْمُ مَحْبُوسٌ وَلَا الرَّأْيُ يُفْنَدُ

أَقُولُ وَلَا يُلْفَى لِمَا قُلْتُ عائب * من النَّاس إِلَّا عَازِب الْعقل مبعد

وَلَيْسَ هوائي نَازِعًا عَنْ ثَنَائِهِ * لَعَلِّي بِهِ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ أَخْلُدُ

مَعَ الْمُصْطَفَى أَرْجُو بِذَاكَ جِوَارَهُ * وَفِي نَيْلِ ذَاكَ الْيَوْمِ أَسْعَى وَأَجْهَدُ

 

وَقَالَ أَبُو سُفْيَان بن الْحَارِث ابْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَبْكِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

أَرِقْتُ فَبَاتَ لَيْلِيَ لَا يَزُولُ * وَلَيْلُ أَخِي الْمُصِيبَةِ فِيهِ طُولُ

وَأَسْعَدَنِي الْبُكَاءُ وَذَاكَ فِيمَا * أُصِيبَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ قَلِيلُ

لَقَدْ عَظُمَتْ مُصِيبَتُنَا وَجَلَّتْ * عَشِيَّةَ قِيلَ قَدْ قُبِضَ الرَّسُول

وَأَضْحَتْ أَرْضُنَا مِمَّا عَرَاهَا * تَكَادُ بِنَا جَوَانِبُهَا تَمِيلُ

فَقَدْنَا الْوَحْيَ وَالتَّنْزِيلَ فِينَا * يَرُوحُ بِهِ وَيَغْدُوُ جِبْرَئِيلُ

وَذَاكَ أَحَقُّ مَا سَالَتْ عَلَيْهِ * نفوس النَّاس أَو كَادَت تَسِيلُ

نَبِيٌّ كَانَ يَجْلُو الشَّكَّ عَنَّا * بِمَا يُوحَى إِلَيْهِ وَمَا يَقُولُ

وَيَهْدِينَا فَلَا نَخْشَى ضَلَالًا * عَلَيْنَا وَالرَّسُولُ لَنَا دَلِيلُ

أَفَاطِمُ إِنْ جَزِعْتِ فَذَاكَ عُذْرٌ * وَإِنْ لَمْ تَجْزَعِي ذَاكَ السَّبِيلُ

فَقَبْرُ أَبِيكِ سَيِّدُ كُلِّ قَبْرٍ * وَفِيهِ سيد النَّاس الرَّسُول

 

 

ليبكِ رسول الله من كان باكيا ... فلا تنس قبرا بالمدينة ثاويا

جزى الله عنا كل خير محمدا ... فقد كان مهديا وقد كان هاديا

وكان رسول الله روحا ورحمة ... ونورا وبرهانا من الله باديا

وكان رسول الله بالخير آمرا ... وكان عن الفحشاء والسوء ناهيا

وكان رسول الله بالقسط قائما ... وكان لما استرعاه مولاه راعيا

وكان رسول الله يدعو إلى الهدى ... قلبي رسول الله لبيه داعيا

أينسى أبر الناس بالناس كلهم ... وأكرمهم بيتا وشعبا وواديا

أينسى رسول الله أكرم من مشى ... وآثاره بالمسجدين كما هيا

وكنا إلى الدنيا الدنية بعده ... وكشفت الأطماع منا مساويا

وكم من منار كان أوضحه لنا ... ومن علم أمسى وأصبح عافيا

إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى ... تقلب عريانا وإن كان كاسيا

وخير خصال المرء طاعة ربه ... ولا خير فيمن كان الله عاصيا

 

وصلى الله على محمد صلى الله عليه وسلم

تعليقات