الجليس والصديق الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك



الحب والغرام للكتب يودي بصاحبه قتيلاً تحت الرفوف ويبقي ذِكره حياً!
في كتابه الحيوان قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ المتوفي سنة 255هـ بعدما وقعت عليه مكتبته فقتلته عن فضل الكتابة:
"لولا الكتب المدونة والأخبار المخلدة، والحكم المخطوطة..، لبطَل أكثرُ العلم، ولغلب سلطان النسيان سلطان الذكر، ولما كان للناس مفزع إلى موضع استذكار. ولو تم ذلك لحرمنا أكثر النفع..
فلذلك وضع الله عز وجل القلم في المكان الرفيع، ونوه بذكره في المنصب الشريف حين قال "ن والقلم وما يسطرون" فأقسم بالقلم كما أقسم بما يُخَط بالقلم.
والكتاب هو الذي يؤدي إلى الناس كتب الدين، وحساب الدواوين مع خفة نقله، وصغر حجمه؛ صامت ما أسكتّه، وبليغ ما استنطقتَه. ومن لك بمُسامر لا يبتديك في حال شغلك، ويدعوك في أوقات نشاطك، ولا يُحوِجَك إلى التجمل له. ومن لك بزائر إن شئت جعل زيارته غِبا، وإن شئت لزمك لزوم ظِلك، وكان منك مكان بعضك.
والكتاب هو الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يغريك، والرفيق الذي لا يملّك، والجار الذي لا يستبطيك.
والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالتملق، ولا يعاملك بالمكر، ولا يخدعك بالنفاق، ولا يحتال لك بالكذب.
والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وبسط لسانك، وجود بنانك، وفخم ألفاظك، وعمر صدرك، ومنحك تعظيم العوام وصداقة الملوك، وعرَفت به في شهر، ما لا تعرفه من أفواه الرجال في دهر، مع السلامة من الغُرم، ومن كدّ الطلب، ومن الجلوس بين يدي من أنت أفضل منه خُلقا، وأكرم منه عِرقا، ومع السلامة من مجالسة البغضاء ومقارنة الأغبياء.
والكتاب هو الذي يطيعك بالليل كطاعته بالنهار، ويطيعك في السفر كطاعته في الحضر، ولا يعتلّ بنوم، ولا يعتريه كلال السهر.
وهو المعلّم الذي إن قطعت عنه المادة لم يقطع عنك الفائدة، وإن عُزلت لم يدَع طاعتك، وإن هبت ريح أعاديك لم ينقلب عليك، ومتى كنت منه متعلقا بسبب أو معتصما بأدنى حبل، كان لك فيه غنى من غيره، ولم تضطرك معه وحشة الوحدة إلى جليس السوء.
ولو لم يكن من فضله عليك، وإحسانه إليك، إلا منعه لك من الجلوس على بابك، والنظر إلى المارة بك، مع ما في ذلك من التعرض للحقوق التي تلزم، ومن فضول النظر، ومن عادة الخوض فيما لا يعنيك، ومن ملابسة صغار الناس، وحضور ألفاظهم الساقطة، ومعانيهم الفاسدة، وأخلاقهم الردية، وجهالاتهم المذمومة، لكان في ذلك السلامة، ثم الغنيمة.
ولو لم يكن في ذلك إلا أنه يشغلك عن سخف المُنى وعن اعتياد الراحة، وعن اللعب، وكل ما أشبه اللعب، لقد كان على صاحبه أسبغ النعمة وأعظم المنة.
وقد علمنا أن أفضل ما يَقطع به الفُرّاغ نهارهم، وأصحاب الفكاهات ساعات ليلهم، الكتاب.
قال المهلب لبنيه في وصيته: يا بني لا تقوموا في الأسواق إلا على زرّاد أو ورّاق.
وحدثني صديق لي قال: قرأت على شيخ شامي كتابا فيه من مآثر غطفان فقال: «ذهبت المكارم إلا من الكتب».
وسمعت الحسن اللؤلؤي يقول: غبرت أربعين عاما ما قِلت ولا بِت ولا اتكأت إلا والكتاب موضوع على صدري.
وقال ابن الجهم: إذا غشيني النعاس في غير وقت نوم- وبئس الشيء النوم الفاضل عن الحاجة- فإذا اعتراني ذلك تناولت كتابا من كتب الحِكم، فأجد اهتزازي للفوائد، والأريحية التي تعتريني عند الظفر ببعض الحاجة، والذي يغشى قلبي من سرور الاستبانة وعز التبيين أشد إيقاظا من نهيق الحمير وهدة الهدم.
وقال ابن الجهم: إذا استحسنتُ الكتاب واستجدته، ورجوت منه الفائدة ورأيت ذلك فيه- فلو تراني وأنا ساعة بعد ساعة أنظر كم بقي من ورقه مخافة استنفاده، وانقطاع المادة من قلبه، وإن كان المصحف عظيم الحجم كثير الورق، كثير العدد- فقد تم عيشي وكمُل سروري.
وذكر العتبي كتابا لبعض القدماء فقال: لولا طوله وكثرة ورقه لنسخته. فقال ابن الجهم: لكني ما رغبني فيه إلا الذي زهدك فيه؛ وما قرأت قط كتابا كبيرا فأخلاني من فائدة، وما أحصي كم قرأت من صغار الكتب فخرجت منها كما دخلت.
فالإنسان لا يعلم حتى يَكثر سماعُه، ولا بد من أن تكون كتبه أكثر من سماعه؛ ولا يعلم، ولا يجمع العلم، ولا يختلف إليه، حتى يكون الإنفاق عليه من ماله، ألذ عنده من الإنفاق من مال عدوه. ومن لم تكن نفقته التي تخرج في الكتب، ألذ عنده من إنفاق عشاق القيان، والمستهترين بالبنيان، لم يبلغ في العلم مبلغا رضيا. وليس ينتفع بإنفاقه، حتى يؤثر اتخاذ الكتب إيثار الأعرابي فرسه باللبن على عياله، وحتى يؤمل في العلم ما يؤمل الأعرابي في فرسه.


تعليقات