لماذا خلق الله الحية والعقرب والذباب والذئاب والمخلوقات الضارة؟! قال الجاحظ في كتابه الحيوان هل تظن فهمك الله تعالى، أن خلق الحية والعقرب، والتدبير في خلق الفراش والذباب، والحكمة في خلق الذئاب والأسد وكل مبغض إليك أو محقر عندك، أو مسخر لك أو واثب عليك، أن التدبير فيه مختلف أو ناقص، وأن الحكمة فيه صغيرة أو ممزوجة. اعلم أن المصلحة في أمر ابتداء الدنيا إلى انقضاء مدتها امتزاج الخير بالشر، والضار بالنافع، والمكروه بالسار، والضعة بالرفعة، والكثرة بالقلة. ولو كان الشر صرفا هلك الخلق، أو كان الخير محضا سقطت المحنة وتقطعت أسباب الفكرة، ومع عدم الفكرة يكون عدم الحكمة، ومتى ذهب التخيير ذهب التمييز، ولم يكن للعالم تثبت وتوقف وتعلم، ولم يكن علم، ولا يعرف باب التبين، ولا دفع مضرة، ولا اجتلاب منفعة، ولا صبر على مكروه ولا شكر على محبوب، ولا تفاضل في بيان، ولا تنافس في درجة، وبطلت فرحة الظفر وعز الغلبة، ولم يكن على ظهرها محق يجد عز الحق، ومبطل يجد ذلة الباطل، وموقن يجد برد اليقين، وشاك يجد نقص الحيرة وكرب الوجوم؛ ولم تكن للنفوس آمال ولم تتشعبها الأطماع. ومن لم يعرف كيف الطمع لم يعرف اليأس، ومن جهل اليأس جهل الأمن، وعادت الحال من الملائكة الذين هم صفوة الخلق، ومن الإنس الذين فيهم الأنبياء والأولياء، إلى حال السبع والبهيمة، وإلى حال الغباوة والبلادة، وإلى حال النجوم في السخرة؛ فإنها أنقص من حال البهائم في الرتعة. ومن هذا الذي يسره أن يكون الشمس والقمر والنار والثلج، أو برجا من البروج أو قطعة من الغيم؛ أو يكون المجرة بأسرها، أو مكيالا من الماء أو مقدارا من الهواء؟! وكل شيء في العالم فإنما هو للإنسان ولكل مختبر ومختار، ولأهل العقول والاستطاعة، ولأهل التبين والروية. وأين تقع لذة البهيمة بالعلوفة، ولذة السبع بلطع الدم وأكل اللحم- من سرور الظفر بالأعداء؛ ومن انفتاح باب العلم بعد إدمان القرع؟ وأين ذلك من سرور السودد ومن عز الرياسة؟ وأين ذلك من حال النبوة والخلافة، ومن عزهما وساطع نورهما. وأين تقع لذة درك الحواس الذي هو ملاقاة المطعم والمشرب، وملاقاة الصوت المطرب واللون المونق، والملمسة اللينة- من السرور بنفاذ الأمر والنهي، وبجواز التوقيع، وبما يوجب الخاتم من الطاعة ويلزم من الحجة؟!. ولو استوت الأمور بطل التمييز، وإذا لم تكن كلفة لم تكن مثوبة، ولو كان ذلك لبطلت ثمرة التوكل على الله تعالى، واليقين بأنه الحافظ، والكالئ والدافع، وأن الذي يحاسبك أجود الأجودين، وأرحم الراحمين، وأنه الذي يقبل اليسير ويهب الكثير، ولا يهلك عليه إلا هالك. ولو كان الأمر على ما يشتهيه الغرير والجاهل بعواقب الأمور، لبطل النظر وما يشحذ عليه ، وما يدعو إليه، ولتعطلت الأرواح من معانيها، والعقول من ثمارها، ولعدمت الأشياء حظوظها وحقوقها. فسبحان من جعل منافعها نعمة، ومضارها ترجع إلى أعظم المنافع، وقسمها بين ملذ ومؤلم، وبين مؤنس وموحش، وبين صغير حقير وجليل كبير، وبين عدو يرصدك وبين عقيل يحرسك، وبين مسالم يمنعك، وبين معين يعضدك، وجعل في الجميع تمام المصلحة، وباجتماعها تتم النعمة، وفي بطلان واحد منها بطلان الجميع، قياسا قائما وبرهانا واضحا. فإن الجميع إنما هو واحد ضم إلى واحد وواحد ضم إليهما، ولأن الكل أبعاض، ولأن كل جثة فمن أجزاء، فإذا جوزت رفع واحد والآخر مثله في الوزن وله مثل علته وحظه ونصيبه، فقد جوزت رفع الجميع؛ لأنه ليس الأول بأحق من الثاني في الوقت الذي رجوت فيه إبطال الأول، والثاني كذلك والثالث والرابع، حتى تأتي على الكل وتستفرغ الجميع. كذلك الأمور المضمنة والأسباب المقيدة؛ ألا ترى أن الجبل ليس بأدل على الله تعالى من الحصاة، وليس الطاوس المستحسن بأدل على الله تعالى من الخنزير المستقبح. والنار والثلج وإن اختلفا في جهة البرودة والسخونة، فإنهما لم يختلفا في جهة البرهان والدلالة. وأظنك ممن يرى أن الطاوس أكرم على الله تعالى من الغراب، وأن التدرج أعز على الله تعالى من الحدأة، وأن الغزال أحب إلى الله تعالى من الذئب. فإنما هذه أمور فرقها الله تعالى في عيون الناس، وميزها في طبائع العباد، فجعل بعضها بهم أقرب شبها، وجعل بعضها إنسيا، وجعل بعضها وحشيا، وبعضها غاذيا، وبعضها قاتلا. وكذلك الدرة والخرزة والتمرة والجمرة. فلا تذهب إلى ما تريك العين واذهب إلى ما يريك العقل. وللأمور حكمان: حكم ظاهر للحواس، وحكم باطن للعقول. والعقل هو الحجة. وقد علمنا أن خزنة النار من الملائكة، ليسوا بدون خزنة الجنة؛ وأن ملك الموت ليس بدون ملك السحاب، وإن أتانا بالغيث وجلب الحياء ؛ وجبريل الذي ينزل بالعذاب، ليس بدون ميكائيل الذي ينزل بالرحمة؛ وإنما الاختلاف في المطيع والعاصي، وفي طبقات ذلك ومواضعه. والاختلاف بين أصحابنا أنهم إذا استووا في المعاصي استووا في العقاب، وإذا استووا في الطاعة استووا في الثواب، وإذا استووا في عدم الطاعة والمعصية استووا في التفضل. هذا هو أصل المقالة، والقطب الذي تدور عليه الرحى. أو ما علمت أن الإنسان الذي خلقت السموات والأرض وما بينهما من أجله كما قال عز وجل: سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إنما سموه العالم الصغير سليل العالم الكبير، لما وجدوا فيه من جمع أشكال ما في العالم الكبير، ووجدنا له الحواس الخمس ووجدوا فيه المحسوسات الخمس، ووجدوه يأكل اللحم والحب، ويجمع بين ما تقتاته البهيمة والسبع، ووجدوا فيه صولة الجمل ووثوب الأسد، وغدر الذئب، وروغان الثعلب، وجبن الصفرد ، وجمع الذرة، وصنعة السرفة وجود الديك، وإلف الكلب، واهتداء الحمام. وربما وجدوا فيه مما في البهائم والسباع خلقين أو ثلاثة، ولا يبلغ أن يكون جملا بأن يكون فيه اهتداؤه وغيرته، وصولته وحقده، وصبره على حمل الثقل، ولا يلزم شبه الذئب بقدر ما يتهيأ فيه من مثل غدره ومكره، واسترواحه وتوحشه، وشدة نكره. كما أن الرجل يصيب الرأي الغامض المرة والمرتين والثلاث، ولا يبلغ ذلك المقدار أن يقال له داهية ، وكما يخطئ الرجل فيفحش خطاؤه في المرة والمرتين والثلاث، فلا يبلغ الأمر به أن يقال له غبي وأبله ومنقوص. وسموه العالم الصغير لأنهم وجدوه يصور كل شيء بيده، ويحكي كل صوت بفمه .
تعليقات
إرسال تعليق