لن تموت إلا إذا شاء الله- صدر الأمر بقتله وتعرض لموت محقق مرة تلو الأخرى فنجاه الله
اتهمت فَاطِمَة بنت أَحْمد بن عَليّ الهزارمردي الْكرْدِي، زَوْجَة نَاصِر الدولة، اتهمت عَاملا كَانَ لَهَا، يُقَال لَهُ: ابْن أبي قبيصَة، من أهل الْموصل، بخيانة فِي مَالهَا، فقبضت عَلَيْهِ، وحبسته فِي قلعتها.
ثمَّ رَأَتْ أَن تقتله، فَكتبت إِلَى المتَوَكل بالقلعة، بقتْله.
فورد عَلَيْهِ الْكتاب، وَكَانَ لَا يحسن أالقراءة والكتابة، وَلَيْسَ عِنْده من يقْرَأ وَيكْتب إِلَّا ابْن أبي قبيصَة، فَدفع الْكتاب إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: اقرأه عَليّ.
. فَلَمَّا رأى فِيهِ الْأَمر بقتْله قَرَأَ الْكتاب بأسره، إِلَّا حَدِيث الْقَتْل، ورد الْكتاب عَلَيْهِ.
قَالَ ابْن أبي قبيصَة: ففكرت، وَقلت: أَنا مقتول، وَلَا آمن أَن يرد كتاب آخر فِي هَذَا الْمَعْنى، ويتفق حُضُور من يقْرَأ وَيكْتب غَيْرِي فَينفذ فِي الْأَمر، وسبيلي أَن أحتال بحيلة، فَإِن تمت سلمت، وَإِن لم تتمّ فَلَيْسَ يلحقني أَكثر من الْقَتْل الَّذِي أَنا حَاصِل فِيهِ.
قَالَ: فتأملت القلعة، فَإِذا فِيهَا مَوضِع يمكنني أَن أطرح نَفسِي مِنْهُ إِلَى أَسْفَلهَا، إِلَّا أَن بَينه وَبَين الأَرْض أَكثر من ثَلَاثَة آلَاف ذِرَاع، وَفِيه صَخْر لَا يجوز أَن يسلم مَعَه من يَقع عَلَيْهِ.
قَالَ: فَلم أجسر، ثمَّ ولد لي الْفِكر أَن تَأَمَّلت الثَّلج قد سقط عدَّة لَيَال، وَقد غطى تِلْكَ الصخور، وَصَارَ فَوْقهَا مِنْهُ أَمر عَظِيم، يجوز إِن سَقَطت عَلَيْهِ وَكَانَ فِي أَجلي تَأْخِير، أَن تنكسر يَدي أَو رجْلي وَأسلم، قَالَ: وَكنت مُقَيّدا، فَقُمْت لما نَام النَّاس، وطرحت نَفسِي من الْموضع، قَائِما على رجْلي، فحين حصلت فِي الْهَوَاء نَدِمت وَأَقْبَلت أسْتَغْفر الله، وأتشهد، وأغمضت عَيْني حَتَّى لَا أرى كَيفَ أَمُوت، وجمعت رجْلي بعض الْجمع؛ لِأَنِّي كنت سَمِعت قَدِيما أَن من اتّفق لَهُ أَن يسْقط قَائِما من مَكَان عَال، إِذا جمع رجلَيْهِ، ثمَّ أرسلهما إِذا بَقِي بَينه وَبَين الأَرْض ذِرَاع أَو أَكثر قَلِيلا فَإِنَّهُ يسلم، وتنكسر حِدة السقطة، وَيصير كَأَنَّهُ بِمَنْزِلَة من سقط من ذراعين.
قَالَ: فَفعلت ذَلِك، فَلَمَّا سَقَطت إِلَى الأَرْض، ذهب عني أَمْرِي، وَزَالَ عَقْلِي، ثمَّ ثاب إِلَيّ عَقْلِي، فَلم أجد مَا كَانَ يَنْبَغِي أَن يلحقني من ألم السقطة من ذَلِك الْمَكَان، فَأَقْبَلت أجس أعضائي شَيْئا شَيْئا، فأجدها سَالِمَة، وَقمت وَقَعَدت، وحركت يَدي ورجلي، فَوجدت ذَلِك سليما كُله، فحمدت الله تَعَالَى على هَذِه الْحَال.
وَأخذت صَخْرَة، وَكَانَ الْحَدِيد الَّذِي فِي رجْلي قد صَار كالزجاج لشدَّة الْبرد، قَالَ: فضربته ضربا شَدِيدا، فانكسر، وَطن الْجَبَل حَتَّى ظَنَنْت أَن سيسمعه من فِي القلعة لعظمه، فيتنبهون على صَوته، فَسلم الله عز وَجل من هَذَا أَيْضا، وَقطعت تكي، فشددت بِبَعْضِهَا الْقَيْد على ساقي، وَقمت أَمْشِي فِي الثَّلج.
فمشيت طَويلا، ثمَّ خفت أَن يرى أثري من غَد فِي الثَّلج على المحجة فيطلبوني، ويتبعوني، فَلَا أفوتهم، فعدلت عَن المحجة، إِلَى نهر، يُقَال لَهُ: الحابور، فَلَمَّا صرت على شاطئه، نزلت فِي المَاء إِلَى ركبتي، وَأَقْبَلت أَمْشِي كَذَلِك فرسخا، حَتَّى انْقَطع أثري، وخفي مَكَان رجْلي، ثمَّ خرجت لما كَادَت أطرافي تسْقط من الْبرد، فمشيت على شاطئه، ثمَّ عدت أَمْشِي فِيهِ، وَرُبمَا حصلت فِي مَوضِع لَا أقدر على الْمَشْي فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يكون جرفا، فأسبح.
فأمشي على ذَلِك أَرْبَعَة فراسخ، حَتَّى حصلت فِي خيم فِيهَا قوم، فأنكروني، وهموا بِي، فَإِذا هم أكراد، فقصصت عَلَيْهِم قصتي واستجرت بهم، فرحموني، وغطوني، وأوقدوا بَين يَدي نَارا، وأطعموني، وستروني، وانْتهى الطّلب من غَد إِلَيْهِم، فَمَا أعْطوا خبري أحدا.
فَلَمَّا انْقَطع الطّلب سيروني، فَدخلت الْموصل مستترا.
وَكَانَ نَاصِر الدولة بِبَغْدَاد، إِذْ ذَاك، فانحدرت إِلَيْهِ، فَأَخْبَرته بخبري كُله، فعصمني من زَوجته، وَأحسن إِلَيّ، وصرفني.
تعليقات
إرسال تعليق