من عجائب الدعاء والتوكل.. أمير يتحدث عن أيام فقره وحاجته


روى القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن التنوخي عن عَليّ بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن مُوسَى بن الْفُرَات، قَالَ:
كنت أتولى ماسبذان -اسم ولاية-، وَكَانَ صَاحب الْبَرِيد بهَا عَليّ بن يزِيد، وَكَانَ قَدِيما يكْتب للْعَبَّاس بن الْمَأْمُون، فَحَدثني: أَن الْعَبَّاس غضب عَلَيْهِ وَأخذ جَمِيع مَا كَانَ يملكهُ، حَتَّى إِنَّه بَقِي بسر من رأى لَا يملك شَيْئا، إِلَّا برذونه -أي حماره-، بسرجه ولجامه، وثيابه وَأَنه كَانَ يركب فِي أول النَّهَار، فَيلقى من يُرِيد لقاءه، ثمَّ ينْصَرف، فيبعث
بحماره إِلَيّ الْكِرَاء، فيكسب عَلَيْهِ مَا يعلفه، وَمَا يُنْفِقهُ هُوَ وَغُلَامه.
فاتفق فِي بعض الْأَيَّام أَن الدَّابَّة لم تكسب شَيْئا، فَبَاتَ هُوَ وَغُلَامه طاويين جائعين.
قال: ونالنا من الْغَد مثل ذَلِك.
فَقَالَ غلامي: يَا مولَايَ، نَحن نصبر، وَلَكِن الشَّأْن فِي الدَّابَّة، فَإِنِّي أَخَاف أَن تعطب.
قلت: فَأَي شَيْء أعمل؟ لَيْسَ إِلَّا السرج، واللجام، وثيابي، وَإِن بِعْت من ذَلِك شَيْئا، تعطلت عَن الْحَرَكَة، وَطلب التَّصَرُّف.
قَالَ: فَانْظُر فِي أَمرك.
فَنَظَرت، فَإِذا بحصيري خلق، ومخدتي لبنة مغشاة بِخرقَة، أدعها تَحت رَأْسِي، ومطهرة خزف للطهور، فَلم أجد غير منديل خلق قد بَقِي مِنْهُ الرَّسْم.
فَقلت للغلام: خُذ هَذَا المنديل، فبعه، واشتر علفا للدابة، وَلَحْمًا بدرهم، واشوه، وجئ بِهِ، فقد اشتقت إِلَى أكل اللَّحْم.
فَأخذ المنديل، وَمضى، وَبقيت فِي الدَّار وحدي، وفيهَا شاهمرج -طائر جارح- قد جَاع لجوعنا، فَلم أشعر إِلَّا بعصفور قد سقط فِي المطهرة الَّتِي فِيهَا المَاء للطهور، عطشا، فَشرب، فَنَهَضَ إِلَيْهِ الشاهمرج فلضعفه قصر عَنهُ،
وطار العصفور، ووقف الشاهمرج، فَعَاد العصفور إِلَى المطهرة، فبادره الشاهمرج فَأَخذه بحمية، فابتلعه.
فَلَمَّا صَار فِي حوصلته، عَاد إِلَى المطهرة، فتغسل، وَنشر جناحيه وَصَاح.
فَبَكَيْت، وَرفعت رَأْسِي إِلَى السَّمَاء، وَقلت: اللَّهُمَّ، كَمَا فرجت عَن هَذَا الشاهمرج، فرج عَنَّا، وارزقنا من حَيْثُ لَا نحتسب.
فَمَا رددت طرفِي، حَتَّى دق بَابي.
فَقلت: من أَنْت؟
قَالَ: أَنا إِبْرَاهِيم بن يوحنا، وَكيل الْعَبَّاس بن الْمَأْمُون.
فَقلت: ادخل.
فَدخل، فَلَمَّا نظر إِلَى صُورَتي، قَالَ: مَا لي أَرَاك على هَذِه الصُّورَة.
فكتمته خبري.
فَقَالَ لي: الْأَمِير يقْرَأ عَلَيْك السَّلَام، وَقد اصطبح الْيَوْم، وذكرك وَقد أَمر لَك بِخمْس مائَة دِينَار، وَأخرج الْكيس فَوَضعه بَين يَدي.
فحمدت الله تَعَالَى، ودعوت للْعَبَّاس، ثمَّ شرحت لَهُ قصتي، وأطفته فِي دَاري وبيوتي، وحدثته بِحَدِيث الدَّابَّة، وَمَا تقاسيه من الضّر، والمنديل، والشاهمرج، وَالدُّعَاء، فتوجع لي، وَانْصَرف.
وَلم يلبث أَن عَاد، فَقَالَ لي: صرت إِلَى الْأَمِير، وحدثته بحديثك كُله، فَاغْتَمَّ بذلك، وَأمر لَك بِخمْس مائَة دِينَار أُخْرَى، قَالَ: تأثث بِتِلْكَ، وَأنْفق هَذِه، إِلَى أَن يفرج الله.
وَعَاد غلامي، وَقد بَاعَ المنديل، واشتري مِنْهُ مَا أردته، فأريته الدَّنَانِير، وحدثته الحَدِيث، ففرح حَتَّى كَاد أَن تَنْشَق مرارته.
وَمَا زَالَ صنع الله يتعاهدنا.

تعليقات