مع المسيح عيسى بن مريم من الميلاد إلى النهاية -4- هكذا مجّد المسيح ربه في أول كلام نطق به


لما أتت مريم عليها السلام قومها وهي تحمل عيسى تفاجئوا بمولودها وهي التي لم يسبق لها الزواج وقالوا يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوءٍ وما كانت أمكِ بغياً فاتهموها بالفاحشة العظمى والداهية الدهياء فضاق بها الحال وعجزت عن المقال ولم يبق لها إلا الإتكال على ذي الجلال فأشارت إليه أن كلموه.
قالوا : كيف نكلم من كان في المهد صبياً أي أتسخرين بنا وتستهزئين بنا فهل يتكلم الطفل الوليد وهل يعقل شيئاً؟! عندها أنطق الله عيسة قائلاً: إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا* وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً* وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً * والسلام عليّ يوم ولدتُّ ويوم أموت ويوم أُبعث حيا. وهو أول كلام تفوه به عيسى اعترف فيه لربه بالعبودية وبرأ أمه مما رموها به من بهتان.
روى ابن كثير في البداية والنهاية بأسانيده عن أبى هريرة أنه قال: إن عيسى بن مَرْيَمَ أَوَّلَ مَا أَطْلَقَ اللَّهُ لِسَانَهُ بَعْدَ الْكَلَامِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ وَهُوَ طِفْلٌ فَمَجَّدَ اللَّهَ تَمْجِيدًا لَمْ تَسْمَعِ الْآذَانُ بِمِثْلِهِ، لَمْ يَدَعْ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا جَبَلًا وَلَا نَهْرًا وَلَا عَيْنًا إِلَّا ذَكَرَهُ فِي تَمْجِيدِهِ ، فقال: "اللَّهمّ أنت القريب في علوك، المتعال فِي دُنُوِّكَ، الرَّفِيعُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِكَ. أَنْتَ الَّذِي خَلَقْتَ سَبْعًا فِي الْهَوَاءِ بِكَلِمَاتِكَ، مُسْتَوِيَاتٍ طِبَاقًا، أَجَبْنَ وَهُنَّ دُخَانٌ مِنْ فَرَقِكَ، فَأَتَيْنَ طَائِعَاتٍ لِأَمْرِكَ، فِيهِنَّ مَلَائِكَتُكَ يُسَبِّحُونَ قُدْسَكَ لِتَقْدِيسِكَ، وَجَعَلْتَ فِيهِنَّ نُورًا عَلَى سَوَادِ الظَّلَامِ، وَضِيَاءً مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ بِالنَّهَار، وَجَعَلْتَ فيهن الرعد المسبح بالحمد، فبعزتك يجلو ضَوْءَ ظُلْمَتِكَ ، وَجَعَلْتَ فِيهِنَّ مَصَابِيحَ يَهْتَدِي بِهِنَّ فِي الظُّلُمَاتِ الْحَيْرَانُ، فَتَبَارَكْتَ اللَّهمّ فِي مَفْطُورَ سَمَاوَاتِكَ، وَفِيمَا دَحَوْتَ مِنْ أَرْضِكَ ، دَحَوْتَهَا عَلَى الماء، فسمكتها على تيار الموج الغامر، فاذللتها إذلال التظاهر، فَذَلَّ لِطَاعَتِكَ صَعْبُهَا ، وَاسْتَحْيَى لِأَمْرِكَ أَمْرُهَا، وَخَضَعَتْ لعزتك أمواجا فَفَجَّرْتَ فِيهَا بَعْدَ الْبُحُورِ الْأَنْهَارَ، وَمِنْ بَعْدِ الْأَنْهَارِ الْجَدَاوِلَ الصِّغَارَ، وَمِنْ بَعْدِ الْجَدَاوِلِ يَنَابِيعَ الْعُيُونِ الْغِزَارَ. ثُمَّ أَخْرَجْتَ مِنْهَا الْأَنْهَارَ وَالْأَشْجَارَ وَالثِّمَارَ ، ثُمَّ جَعَلْتَ عَلَى ظَهْرِهَا الْجِبَالَ فَوَتَّدْتَهَا أَوْتَادًا عَلَى ظَهْرِ الْمَاءِ فَأَطَاعَتْ أَطْوَادُهَا وَجُلْمُودُهَا ، فَتَبَارَكْتَ اللَّهمّ ، فَمَنْ يَبْلُغُ بِنَعْتِهِ نَعْتَكَ ، أَمَّنْ يَبْلُغُ بِصِفَتِهِ صِفَتَكَ، تَنْشُرُ السَّحَابَ ،وَتَفُكُّ الرِّقَابَ، وَتَقْضِي الْحَقَّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ ، أَمَرْتَ أَنْ نَسْتَغْفِرَكَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ، سترت السموات عَنِ النَّاسِ ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ انما يغشاك مِنْ عِبَادِكَ الْأَكْيَاسُ، نَشْهَدُ أَنَّكَ لَسْتَ بِإِلَهٍ اسْتَحْدَثْنَاكَ ، وَلَا رَبٍّ يَبِيدُ ذِكْرُهُ ، وَلَا كَانَ معك شركاء فندعوهم ونذكرك، وَلَا أَعَانَكَ عَلَى خَلْقِنَا أَحَدٌ فَنَشُكَّ فِيكَ، نشهد أنك أحد صمد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ له كفواً أحد.
وَكَانَ عِيسَى يَرَى الْعَجَائِبَ فِي صِبَاهُ إِلْهَامًا مِنَ اللَّهِ ، فَفَشَا ذلك في اليهود، وترعرع عيسى فهمت بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَخَافَتْ أُمُّهُ عَلَيْهِ ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى أُمِّهِ أَنْ تَنْطَلِقَ بِهِ إِلَى أَرْضِ مِصْرَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ.
ولما بلغ عِيسَى ثلاث عشرة سنة أمر اللَّهُ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ بِلَادِ مِصْرَ إِلَى بيت إيليا ، وَأَقَامَ بِهَا حَتَّى آتاه اللَّهُ الْإِنْجِيلَ وَعَلَّمَهُ التَّوْرَاةَ ، وَأَعْطَاهُ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءَ الْأَسْقَامِ، وَالْعِلْمَ بِالْغُيُوبِ مِمَّا يَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِهِمْ ، وَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِقُدُومِهِ وَفَزِعُوا لِمَا كَانَ يَأْتِي مِنَ الْعَجَائِبِ فَجَعَلُوا يَعْجَبُونَ مِنْهُ فدعاهم الى الله ففشا فيهم أمره.
وقد أنزل الانجيل على عيسى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ثَمَانِي عَشْرَةَ لَيْلَةً خلت من شهر رمضان وأُنْزِلَ عَلَيْهِ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثِينَ سَنَةً وَمَكَثَ حَتَّى رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً .
وأَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ (أَنْزِلْنِي مِنْ نَفْسِكَ كَهَمِّكَ، وَاجْعَلْنِي ذُخْرًا لَكَ فِي مَعَادِكَ، وَتَقَرَّبْ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ أُحِبَّكَ ، وَلَا تَوَلَّ غَيْرِي فَأَخْذُلَكَ، اصْبِرْ عَلَى الْبَلَاءِ ، وَارْضَ بِالْقَضَاءِ ، وَكُنْ لِمَسَرَّتِي فِيكَ فَإِنَّ مَسَرَّتِي أَنْ أُطَاعَ فَلَا أُعْصَى، وَكُنْ مِنِّي قَرِيبًا ، وَأَحْيِ ذِكْرِي بِلِسَانِكَ ،وَلْتَكُنْ مَوَدَّتِي فِي صَدْرِكَ ، تيقظ من ساعات الغفلة، واحكم في لَطِيفَ الْفِطْنَةِ ، وَكُنْ لِي رَاغِبًا رَاهِبًا ، وَأَمِتْ قلبك في الخشية لي ، وراع الليل لِحقّ مسرتي ، وأظمئ نَهَارَكَ لِيَوْمِ الرَّيِّ عِنْدِي ، نَافِسْ فِي الْخَيْرَاتِ جهدك ، واعترف بِالْخَيْرِ حَيْثُ تَوَجَّهْتَ، وَقُمْ فِي الْخَلَائِقِ بِنَصِيحَتِي ، وَاحْكُمْ فِي عِبَادِي بِعَدْلِي، فَقَدْ أَنْزَلْتُ عَلَيْكَ شفاء وسواس الصُّدُورِ مِنْ مَرَضِ النِّسْيَانِ ، وَجِلَاءَ الْأَبْصَارِ مِنْ غِشَاءِ الْكَلَالِ ، وَلَا تَكُنْ حَلِسًا كَأَنَّكَ مَقْبُوضٌ وأنت حي تنفس، يا عيسى بن مَرْيَمَ مَا آمَنَتْ بِي خَلِيقَةٌ إِلَّا خَشَعَتْ ، وَلَا خَشَعَتْ لِي إِلَّا رَجَتْ ثَوَابِي ، فَأُشْهِدُكَ أَنَّهَا آمِنَةٌ مِنْ عِقَابِي ، مَا لَمْ تُغَيِّرْ أَوْ تُبَدِّلْ سُنَّتِي ، يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبِكْرِ الْبَتُولِ ، ابْكِ عَلَى نَفْسِكَ أَيَّامَ الْحَيَاةِ ، بُكَاءَ مَنْ وَدَّعَ الْأَهْلَ ، وَقَلَا الدُّنْيَا وَتَرَكَ اللَّذَّاتِ لِأَهْلِهَا ، وَارْتَفَعَتْ رَغْبَتُهُ فِيمَا عِنْدَ إِلَهِهِ ، وَكُنْ فِي ذَلِكَ تُلِينُ الْكَلَامَ ، وَتُفْشِي السَّلَامَ ، وَكُنْ يَقِظَانَ إِذَا نَامَتْ عُيُونُ الْأَبْرَارِ ، حَذَارِ مَا هُوَ آتٍ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ ، وَزَلَازِلِ شَدَائِدِ الْأَهْوَالِ، قَبْلَ أَنْ لَا يَنْفَعَ أَهْلٌ ولا مال، واكحل عينك بملول الْحُزْنِ إِذَا ضَحِكَ الْبَطَّالُونَ، وَكُنْ فِي ذَلِكَ صابرا محتسبا ،وطوبى لك ان نالك ما وعدت الصابرين.

تعليقات